الخميس، 24 مايو 2012

اقتباس من نَص مُهمل



- يوم الزفاف :




في الحاره :
كان كل فرد قد حدد موقعه ووظيفته ليوم الزفاف , و تكلفت بالاشراف فقط
أبناء الدلاك و أبناء العسيري تكفلوا بتركيب " اللمبات " في كافة أرجاء الحارة و أبناء باحيص , قاموا بنصب السواتر و " الفرشات " في قسم النساء ,
أبناء العم حسن المؤذن قاموا بتجهيز قسم الرجال كاملاً وبقية شباب الحارة توزعوا بين هذه المجموعات ,
إنكبوا على الترتيب و تنظيف الحارة و نصب السواتر و المعدات منذ الساعة العاشرة صباحاً !
كانت حارتنا يومها كخليةِ النحل كل شخص يقوم بواجبه على أتم وجه 
 و أنا أتواصل معهم هاتفياً فطوال الاسبوع تكفلت  بأغلب المهمات و اليوم سأكتفي بالراحة .
قام أبا فيصل بتصدير المواشي إلى المطبخ الذي إتفقت معه مسبقاً على تجهيز الولائم .
وعدت إلى المنزل ظهراً لأشحن طاقتي بقليلٍ من النوم رغم محاولات بعض شباب الحارة لإرغامي على تناول بعض " الكبتاجون" لكن محاولاتهم باءت بالفشل , وفضلتُ النوم
بعد القيلولة قمت بتناول وجبة خفيفة و الإستعداد لتجهيز العريس بعد صلاة العصر ذهلت حقاً من المجهود الذي قام به شباب الحارة في وقت قياسي !
كانت الحارة  تكتسي حلةً كرنفالية بديعة
بدأتْ رقصة المزمار الشعبية و الكل منتشٍ بخمر الفرح ,
و عبير النباتات العطرية و دهن العود تخالط عبق البن وعرق الكادحين الفواح
ذلك أمرٌ نادر الحصول
فحارتنا منذ بدءِ عصر الحداثة وهي ما تزالُ باخعةً في قاعِ البدائية !
لا تفوح منها إلا رائحة النميمة ,
ولا تهب عليها إلا رياح البغضاء و الحسد!
اجتمعنا لأول مرة على أمر مبهج , رغم أننا لا نجتمع عادةً إلا على العزاء
أبا جاري نقش اسمه على كل أرصفة الحارة و أزقتها المتشعبة و مصابيحها المعطوبة ومنازلها المتهالكة و مقبرتها المغلقة منذ عقدين
لا تسكنها إلا الأشواك حتى ديدان أرضها أفناها الجوع وبدأت تستسقي طلباً للرفات !
هل سَئِمت حارتنا من احتواء جثث أبنائها المتحللة !!
أم أنها تبادل أبنائها النكران , فكما نزحوا عنها سابقاً لأجل العولمة هاهي تتبرأ من جثثهم المتعفنة و أكفانهم الرثة 
 لتٌعلمهم بأن البذخ فانٍ في البرزخ !!
أدرك جيداً , بأن أبا جاري كان مصدر اجتماعنا اليوم وليس لحارتِنا السقيمة مطلبٌ من كل هذه الترهات!
فالماضي هو تلك المخاوف التي نخشى عودتها حتى في الأحلام !!
الماضي هو من يهتك عرض العولمة المشؤومة , فالطهارة لا تُوَلِد إلا البدائية
أصبحنا ثوريين ضد كل شيء حتى الانتماء !
نحن تلك الدمى التي تتحرك بإتقان و جمالية فمُحركنا يتقن عمله فعلاً !!
مازلنا نتفسخ عن أي ماضٍ لنا , حتى أصبحنا نتطبع كل شيء مستورداً
حتى إستبدلنا التاريخ بتواريخ مستوردة فهي أجود !!
  أمثالنا و إقتباساتنا و فلسفتنا و أحلامنا تصبح أكثر مصداقية
لو كانت مستوردة !
لا نصنفُ حتى كشعبٍ ثالث !!
نحن أدنى من ذلك , لدينا موارد هائلة وعقول ماشية
مسيرون نحو الهاوية 
قابعون في قعر الفساد
سحقاً
نلهث نحو التخريب !!
  و نتجه لعصر مابعد السذاجة !!


كانت الحارة تشتعل بالبهجة
 إقتربت عقارب ساعتي من العاشرة
مازال الوقت مبكراً للبدء حتى , وليس الإنتهاء !
**
خضعت حارتنا لعملية تجميلٍ مؤقتة , إكراماً للماضي
فشكراً لأبو جاري
وفيٌ جداً هذا الرجل , لحبيبته و حتى لـحارته ألم أقل من قبل
إنه يستحق وساماً !!
انتابتني حالة من الغياب الذهني
جلست على كرسيٍ مهمل في زاوية الفِناء ,
بعيداً عن الصخب و الضحكات و التهنئات و " زغاريط" النسوة
بعيداً عن ضربات طبول المزمار و أهازيج الشباب التراثية
أرخيت رأسي للخلف و أسدلت أهدابي عن كل ماحولي

"
اكتسى كل ما حولي السواد , وبدأت بالبحث عن قبسٍ مضيء
أدحر به جهابذ الظلمة , أين كل الأشخاص من حولي , لم رحلوا لم أعد أسمع الصخب من حولي !
سكــــون و حِلكه!
لاح لي سناً مضيء , ينسل برقه كلما أقتربت منه حتى أقتربت كثيراً منه , حينها بدأ بالانحسار و الابتعاد شيئاً فشيئاً
ها أنا اركض تجاهه هاهي تلاحقني جهابذ الظلمة محاولةً إغراقيِ في غياهبها
تكاد تُكبل أطرافي !
تكاد تخنق أنفاسي !
تكاد تبعثر أشلائي !
تكاد تبدد أفكاري !
إتسعت رقعة الضوءِ كثيراً حتى تبين لي مصدره ,
إنها هي !!
إنها هِي !!
بكافة ملامحها , طرفاها الناعسان , شفتاها مازالت مضطرمةً بالنيران !
 شعرها الثائر في الأرجاء يُعلن الطغيان !
 قدها الناحل كعود اللبان , بشرتها الطافحةُ نوراً و نقاءً يشعانَ!

كيف لي أن لا أدرك هذه المُسَلمة القدرية, نحن مقترنانٌ منذ الأزل
لا يزال القدر يتعمد عودتنا في كُل مرةٍ  رغم قرارات الإفتراق !
ما أقدمت على تطهير روحي , إلا لأجلها
مازالت تنعجن بذاتي حتى غدونا طينةً واحده , لماذا لا نُجيد الإنسحاب !
لن أدعها تتوصل لتلك العلقة النتنة المتغلغلةُ في أعماق روحي , يجب أن أتطهر من قذارات الماضي
قبل أن تتعمق في روحي و تلامس تِلك المضغةَ النتنة  فتدنس طهرها الإلهي .

لقد أحالت دجى روحي صفحةً بيضاء , صحراء جوارحي ارتوت بعد جفافِها شهداً زلال

" من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه "
ترددينها كثيراً!
أنشدُ محكمةً إلهية تحاكم ذاتي 
 إلهي أنت القاضي العادل
فلا رحمة لي .. أريد أن أحاكم فحسب !
ذلك العدل السماوي بحق! 
 جَعل مصيبتي في نفسي
حمداً لله , أستحق الانغماس في لُجِ الشقاء
بلغنا من العشق ما بلغنا , لا نُطيق بعداً ولا نقوى البقاء!
**
قالت :" لقد سَئِمتُ مما يحاكُ من مؤامراتٍ ضِدنا لنهرب ونترك العالم لهم فأنا أحيا بك "
يااااااه إياكِ وقولها , نحن أقوى فإن الله معنا !
كيف سأكون كفؤاً بعشقك , إن لم أتقي الله فيك !!
كيف لي إستغلال ضعفك , لأشبع غرائزي المقيتة
كيف لنا الإنسحاب و الله معنا
لِمَ نخشاهم , و نحن كائنٌ واحد لا يفصل
كيف يفصِلون الماء إن خالطهُ ماءٌ مثله
دعيهم فنحن نعلم بأن خلاصنا سيأتي يوماً ما
**
سحقاً لعالمٍ لا تقاس فيه الرجولة إلا بمقدار الجيب
سحقاً للحساد لا يتقنون إلا الكره !
لا تقلقي.. إن الله معنا
انظري إلى أبا جاري كيف يبدوا سعيداً صَبِر فظفر
يا إلهي لا طاقة لي بالانتظار!
عَجِل ..عَجِل
**

أفقت حينها !!, وكم كانت لذيذةً كعادتِها
كعادتِنا نفتعل الصدف لنلتقي في منزل العائلة , إما على الدرج أو حين دخولي ببراءةٍ  متصنعة , كأني لا أعلم بتواجدها , وعند التقائنا ندعي الحرج و نقدم على الانسحاب , لم نتحدث يوماً وجها لوجه 
 هل ستحتفظُ بكل النعم التي تَحويها .. إلى ما بعد خلاصنا لنستلذ بأحاديثنا مدى الحياة ؟ 
نحن دوماً ما نتقنُ خطوات اللقاء حتى مع وجود الآخرين 
 لا يشعروا بشيءٍ من عواصف الجنون بعينيك و تأوهاتِ الشوق الصاخبةُ بقلبي!!
  نظراتنا لابد لها الارتواء أسبوعيا على الأحلام واللَمحَات!
أنا لستُ مِمنْ إقترنوا بمظاهر البهرجة البراقة
أو الباحثين عن إشباع اللذات المؤقتة
لَمْ أحاول يَوماً أنْ أكونَ غَنياً أو ذَا سُلطَة
جُل مَا أردته الاقتران بها
 منذ التقاء أعيننا قبل زمنٍ سحيق !
أمنِيةُ مستحيلة , وَلكنْ سأفني عمري في المحاولة
فَالأحلامُ هِيَ مُخَدرٌ لِعقولِنا , وَمُسَكنٌ للأسى
مِثَلُهَا كـالخَمرْ تُواسِينَا
إلا أنهَا طَويِلَةُ المَدىّ
أخشى أن يأتي يوم لا تسكن الأحلام فيه آمالي !

ياااه نغتال ذواتنا بذات الخنجر
" الشوق "


"
ثورة الفرحة التي نضحت من قلبِ أبا جاري و محبوبتة لتُغرقَ كُل من في الحارة بطوفان البهجة ما عَداي
غائبٌ أنا عن كل شيء , فأنا إلى الآن لا أستحق أي بهجة أو سرور
فما زال رِجسي يلازمني ولم أستطع الإغتسال منهُ كلياً حتى الان
قدِم إليّ أحدُ الشباب ليعلمني بأنهم قد قاموا بتجهيز الولائم للضيوف ,
 ولكن أبا جاري ,أصَرّ على عدمِ البدء بأيِ شيء حتى أتواجد بجانبه !
توجهت لأتدارك ماتبقى من هندامي مُريقاً بعض الماء على وجهي الذي إجتاحه السقم 
بالكاد أتمكن من رفع قدمي  أشعر بخِدرٍ يجتاح أطرافي بجيشٍ نَاعسْ !
أذهب لإكمال ما بدأته و يٌقسم عليَّ أبا جاري بأني لن آكل إلا معه , أرغمت نفسي على تناول الطعام و رسمت الإبتسامة على وجهي الذي يجيد التصنع و أظهرت سعادتي " أقسم بأني سعيد لأجله " مع سيلٍ من التهاني و التبريكات و النصائح ,
 و بعد طعام العشاء و المسامرة و إدعاء الإندماج بين المدعويين و التلاعب بعصا المزمار ساعتي مازالت متثاقلةً نحو الثالثة صباحاً , قمنا بـ " زف " أبا جاري في كافة أزقة الحارة يسير ممسكاً بيد أبيه و يدي , و الجميع ساروا من خَلفنا بِالمَوكب المُرتَجل 
 الطبول و الأهازيج إكتستِ السعادة حِلةً و الضِحكةَ مَركِباً
, أمطرت سماءُ حارتنا حينها بالورود و الفل و المحبة المؤقتة !
وحينها تولدتْ في قَلبي رغبةُ الإنتقام.. مِن كُل شَيء , حتى نَفسي !
و حينها دُمجَ أبو جاري و محبوبته في جسدٍ واحد بعد عِشقٍ دامَ ثلاثين خريفاً
و حينها تبرجت حارتنا لحد السفور لتتفاخر على بقية أرجاء جدة
و حينها فقط ارتشفنا أنا و هِيَ سُماً ظَننا أنه تُرياقُ الخَلاص!
***
 

هناك تعليق واحد:

  1. غير معرف10:23 م

    هل سئمت حارتنا من احتواء جثث أبنائها المتحلله !!
    أم أنها تبادل أبنائها النكران ، فكما نزحوا عنها سابقاً لأجل العولمة هاهي تتبرأ من جثثهم المتعفنة وأكفانهم الرثة ، لتعلمهم بأن البذخ فانٍ في البرزخ !!

    وقفت أمام تلك العبارة متأملة مذهولة لوصفك الدقيق لحال كثير من الناس ..

    هذه المقالة كافية ليشهد لك لك قاص وروائي بأنك حامل لشعلة الرواية وقديسيتها ..

    أسلوبك شيق ممتع استثنائي (هنا لا أُجامل ) لانني بعد قرأتي لكثير من القصص والروائيات وحتى المقالات لكثير من أدبائنا لم أجد الا مايدعوني لتقديم إستقالتي من قرأة كل مايقدمونة من سلعة رخيصة بائسة ..

    أتمنى لو أستطيع أن أحصل على نسخة من مولودتك (روايتك) لأقرأها وأستعيد ثقتي بأدبائنا ..

    لمى الراجي

    ردحذف