الأحد، 31 مارس 2013

اليهودي الحالي , و أشكالية الأنا الآخر




اليهودي الحالي

رواية سردية للأديب اليمني : علي المقري
صدرت عن دار الساقي بـ149 صفحه من الحجم المتوسط عام 2009



بحكم عدم اهتمامي الكبير في الطرح الروائي العربي الحديث لم ألقِ لها بالاً و لم أفكر في قراءتها , و ظننتُ بأنها من الروايات المعتادة التي تكرر ثالوث الفرقعة الإعلامية العربية المعتادة " خصوصية المجتمعات المغلقة – الجنس – قصص العشق " ذلك الثالوث المبتذل الذي يرتكزُ عليه كل الروائيين الخليجيين بشكل عام , والذي لقي رواجاً ضخماً لدى شريحة " القارئ البسيط " الذي تأسره الدهشة في جرأة الطرح المحاكي للصناديق الإجتماعية المغلقة , تلك الصناديق التي من المحرم عليه فتحها للعيان و عرضها على الملأ , فهي تتداول فقط في مجالس الأصدقاء و في السر فقط .

بنيت تصوري المسبق على خلفية الخيبة لدي من الطرح العام و قررت عدم قراءتها رغم تلك البهرجة الإعلامية حولها ..
و لكن قبل شهرين تقريباً , ذهبت لمعرض الكتاب الثالث في جامعة جازان , ذلك الحدث الإعلامي المضجر الذي يفتقر للكتب و يكتظ بالفلاشات و الإعلاميين و الطلاب الباحثين عن الكتب الجامعية , التقيت في ذلك الحين بأعضاء نادي القراءة بجامعة جازان , بالأخص الشاعر الرائع عبدالله عبيد الذي كانت دعوته لي شخصيه للحضور في آخر أيام هذا المحفل الثقافي الصوري , و تعرفت حينها على مجموعة من الشعراء الواعدين أمثال وليد مجلي و أحمد يعقوب و طبعاً الشاعر النشط جداً إياد الحكمي دار حديث بيننا عن الرواية العربية و قلت رأيي المتصلب بكل ثقة و أنا  أحمله منذ سنوات حسبما أراه من أشباه الروايات السخيفة التي تتصدر المشهد الروائي , حتى قال لي أحمد يعقوب هل قرأت " اليهودي الحالي " ؟
قالها بطريقة تجيد الدهشة حقاً , جعلتني ألتفت له متسائلاً : ما قصتها ؟
قال لي اقرأها و أكتفي بها لعلي المقري و إبتعد عن روايته حرمه , فهي موسومةٌ بالثالوث الإعلامي المقيت ..

قبل أيام قام أحد الأصدقاء بإهدائي إياها , وهو يصر على أن اقرأها , يا الله! ماهذه الرواية التي ينصحني الجميع بقراءتها ؟ حتى حسين العُمري يقول بأنها غيرت حياته !
و كأنه يتحدث عن أعمال ديستويفسكي أو تولستوي , سأقرأها ..

كانت مدة قراءة الرواية لا تتجاوز 80 دقيقة , لماذا انتهت بهذا الإيجاز و بهذه السرعه ؟ لمَ تلك الأعمال القاصمة تمر وكأنها تركض ملوحةً لنا , أو نحن من يمر بها و كأننا ننظر من نافذة حافلة مسرعه تمر عبر دكاكين قرية نائية يسكنها بعض العجزة و المزارعين الذين طغت الحياة على ملامحهم , و استوطنت وجوههم بكل وحشية القدر !
هذه الحياة ظالمةٌ جداً , ظالمةٌ لدرجة أنها تسرق جسد فاطمة وروح سالم , لقد سرقنا معهما , و آمنّا بمذهب فاطمة .. ذلك مذهب الشيخ الأكبر !

لقد سلب علي المقري بنفسه فاطمة و اليهودي الحالي , لقد قدمهما بطريقةٍ لا تليقُ بهما .. السرد ليس رواية بل هو سيرةٌ ذاتية , لا أظن بأن اليهودي الحالي سيقدم سيرته الذاتية بهذا الإيجاز , إكراماً لفاطمة لن يفعل .. إن الفاعل هنا هو علي المقري بشكلٍ فاضح , إن القصة كان أضخم من ذلك الإيجاز المفرط , وبسمة فاطمة أبلجُ من ذلك التقرير الذي زعم علي المقري بأنه على لسان اليهود الحالي أو على لسان حفيده ابراهيم في آخر المطاف , ضاقت القبور بفاطمة و سالم و ضاقت سريرة علي المقري بهما كذلك , فذلك الإحساس الإنساني العميق لا يستطيع اختزاله قلم , مهما كان هذا القلم .. البعض قد يقترب من كامل المعنى كديستيويفسكي مثلاً !
إن ما قرأته أشبه بصراع الأنا الآخر لهو دلالة رمزية على ألف ألف فاطمة و ألف ألف علي إبن المؤذن , فجميعنا نُدكُ مابين المؤذن و أسعد , ما بين هزاع الممتلئ حقداً و المسلم المتعالي الممتلئ جهلاً و كبراً , كيف لهذه القصة أن تنتهي ونحن شخوصها في أغلب الأحيان نتبادل الأدوار مابين فاطمة و صبا مابين سالم و علي .. و الكثيرون هم أسعد و المؤذن , و أنا حاييم .. دوماً أنا حاييم أغني ثملاً ..


** hatimovich

الثلاثاء، 12 مارس 2013

دور المثقفين في المجتمع المعاصر



اضاءات حول محاضرة:
 " دور المثقفين في المجتمع المعاصر"



 "مر على المحاضرة 40 عاماً ,ماذا تغير منذ ذلك الحين و مالذي تحقق! "


*جان بول سارتر 1967م بــ جامعة القاهرة
من كتاب : سارتر و الفكر العربي المعاصر


دور المثقفين في المجتمع المعاصر هو عنوان المحاضرة التي ألقاها جان بول سارتر في جامعة القاهرة، في الرابع من مارس عام 1967، و نشرتها مجلة الطليعة في ملف خصصته عنه في أبريل من ذات العام، و أعادت نشرها مجلة أوراق فلسفية في عددها الرابع عشر عام 2005. إذاً اختار سارتر أن يلقي على المصريين الذين اعتبرهم آنذاك مجتمعاً ثوريا، محاضرة في دور المثقف، و تشاء المصادفات أن يكون ذلك قبيل النكسة. و لنكن أكثر تحديداً، فقد اختار سارتر أن يتحدث عن دور المثقفين في المجتمع البرجوازي الذي نشأ فيه، و تأسف لأنه لا يستطيع أن يتحدث عن دور المثقف في المجتمع الثوري الذي يتحدث إليه. و يا لها من مفارقة، فها نحن المجتمع الثوري في نظر سارتر أيام 1967، قفزنا حوالي أربعين عاماً...فماذا أصبحنا؟
هل نحن مجتمع برجوازي كالذي تحدث سارتر عن مثقفيه و دورهم؟ ربما تساعدنا العودة إلى بعض تفاصيل محاضرة سارتر في الإجابة على هذه الأسئلة، أو طرح المزيد منها. لقد بنى سارتر محاضرته على التفرقة بين رجل العلم و المعرفة و المثقف. هذا المثقف الذي لا ينظر له بارتياح من الطبقة الحاكمة، و كذلك تنظر له الطبقة الكادحة بريبة و شك، مع احترامها له كرجل علم و معرفة. فالمثقف كما يراه سارتر هو ذلك الكائن دائم المعارضة والنقد، يتدخل فيما لا يخصه في نظر السلطة مستغلاً شهرته و تأثير أعماله. و يبدأ سارتر بضرب أمثاله للدلالة على قوله، فعالم الأبحاث النووية الذي يخدم القوة الإمبريالية، يظل عالماً لا مثقفاً، إلى أن يشترك مع علماء آخرين في التوقيع على بيان يدين استخدام الدولة لأبحاثه في أغراض غير إنسانية. هنا فقط يتحول إلى مثقف. فالمثقف رجل معرفة ، لكنها معرفة عملية. المثقف هو ذلك العالم أو الطبيب أو القانوني أو الفنان...إلخ، الذي يسعى لتكوين نفسه حين يعي التناقض داخل مجتمعه البرجوازي، ثم يقوم بالاختيار. و هناك من رجال العلم و المعرفة من يدركون التناقض، لكنهم يسعون لإخفائه مع السلطة الحاكمة، و هنا يختار رجل العلم أن يصبح من كلاب الحراسة بحد وصف سارتر، الذين يعيشون القلق و التناقض و عدم الرضى، لكن لا يجعلون هذه العناصر تعمل داخلهم و تغيرهم. و هذا يعود بنا إلى مقولات سارتر الأساسية التي يعرفها كل دارس فلسفة، هذه المقولات التي تنبني عليها مثل هذه المحاضرة، و غيرها من قصص و مسرحيات و روايات و مقالات و أحاديث سارتر. فرجال العلم و المعرفة من البشر، الذين عرفهم سارتر بأنهم موجودات لذاتها، تكون أسبقية الوجود لديها على الماهية، أي توجد أولاً ثم تتحدد ماهياتها عن طريق أفعالها. و لا يترك سارتر الإنسان عرضة للتأويل، فقد قرر عبر الفكرة المركزية في الفلسفة الوجودية، و هي الحرية، أن الإنسان محكوم عليه بالحرية، و من ثم فرجل العلم محكوم عليه بالحرية، و لا يوجد ما يجبره على أن يصبح من كلاب الحراسة بدلاً من أن يكون مثقفاً. لكن سارتر يدرك هذه المرحلة المضطربة القلقة لدى رجل العلم و المعرفة، التي يمكننا أن نطلق عليها مرحلة انتقالية أساسية. لكن من أين يأتي التناقض؟ و علينا أن نتذكر هنا أن حديث سارتر كان عن مجتمعه الغربي البرجوازي، لقد ضرب سارتر مثلاً ذكياً للغاية، مستمداً من تاريخ اليابان، حين تم الإصلاح الكبير، أو حين قرر حكام اليابان صنع بلادهم و إصلاحها من أعلى، فضحت الطبقة الحاكمة ببعض الإقطاعيين، لدفع عجلة الاقتصاد ببعض رؤوس الأموال. و وجدت الطبقة الحاكمة نفسها تواجه مسألة ملحة، و هي أهمية وجود كوادر من المهندسين و الفنيين و غيرهم، و من هنا كان لابد من إصلاح في وسائل التربية و التعليم، هذه الوسائل التي كانت ترسخ تربية الشعب على عبادة الإمبراطور و التضحية من أجله، فأمسك أحد وزراء التربية و التعليم بالعصا من المنتصف، و قرر أن تكون تربية الأطفال في حدود المبادئ التقليدية المتعارف عليها، التي ترسخ الانصياع للأسلاف، إلى أن يشب الطفل و يصل للجامعة، و هنا تكون التربية علمية تماماً، سيدرس الطالب الفيزياء و الرياضيات و الأحياء. أي أن النظام الأول الذي يطبق في الطفولة التي يصعب الإفلات من تاثيرها يعلم الخضوع الكامل، و الثاني إن شاء الفرد أم أبى سيؤدي به إلى الحرية. الملفت للنظر في هذا المثال الذي يطرحه سارتر هو أن الاخوة اليابانيين لم يلجأوا في حل مشكلتهم في الإصلاح إلى خبراء أجانب. و ينتقل سارتر إلى حرية الفكر، هذه المقولة الملتبسة لدى كثيرين، فحرية الفكر هنا لها معنى محدد: " ليس حرية التفكير في أي شيء بل حرية البحث. إنها حرية تقدم الشيء عما اكتسبه الفكر من تجارب، مما يتمشى و يتجاوب مع رفض مبدأ السيادة". فالعالم و رجل المعرفة سيضطر على مضض لاستعمال الحرية، حيث ستأتي إليه التناقضات بنفسها، و لن يسعى هو إليها، فقط عليه أن يتركها تكونه و تدفعه. و يضرب سارتر مثلا معبراً هنا بـ " ميكلسون" و " مورلي"، حين أرادا أن يقيسا سرعة الضوء في بداية القرن العشرين، و لم يفكرا و لو للحظة في نقض نظرية نيوتن، التي قاما بالقياس في نطاقها. لكن التجارب التي قاما بها لأكثر من مرة ، لم تترك لهما مجال شك، فقد أثبتا أن سرعة الضوء باقية على ما هي عليه، سواء اقترب الشيء المضاد من المرآة أو ابتعد عنها. فهما كرجلي علم كان عليهما أن يقوما بنقض العرف العلمي، لا نتاج نزوة عابرة، و إنما لنقض العرف العلمي لذاته. و هكذا يعلمنا سارتر قبول النقض حينما ينقض الشيء نفسه، و يصبح استمراره عبثاً. و من هنا على العالم أن يكون حر الحركة، هذه الحرية العملية، لما يقتضيه العلم. و هذا العلم له طابع شامل و كلي، فكل إنسان مهما كانت معرفته ضئيلة يمكنه أن يكون عالماً، و استند سارتر في ذلك على تجربة سقراط، الذي عرف منهجه الفكري الفلسفي بالتوليد، فقد دفع سقراط بأحد العبيد ليكتشف البرهان على نظرية من النظريات عبر نقله من جملة لأخرى و استنتاج لآخر، حتى وصل العبد للبرهان الرئيسي. و هنا يضرب سارتر عرض الحائط بفكرة صفوة العلماء، فالعالم هو أخصائي في البحث الذي يستطيع أي إنسان أن يتوصل إليه إذا توفرت له أسباب التخصص. أما نظريات عالم الفن التي تقرر أن بعض المؤلفات التي تتسم بالرقة والحساسية النادرة، ليست موجهة إلا لمن يتميزون بذات المستوى من الرقة والحساسية، و عليه فإن ما يتردد بأن المؤلفين والقراء يمثلون فئة أعلى من غيرهم، فهو قول لا يقنع سارتر و لا يعترف به، و دلل عليه بكتابات "ستاندال" الذي صرح بنفسه بأن مؤلفاته للمختارين، و تحولت بعد ذلك إلى كتب للجيب يقراها الملايين. و من هنا يتحدث سارتر إلى الفنانين و الكتاب، و يقول إن من يتصور نفسه صاحب طبيعة خاصة فهو مخطئ. و بغض النظر عن اتفاق البعض مع مقولات سارتر تلك أو اختلافهم معه، أو محاولة البعض الآخر اكتشاف إلى أي حد كان سارتر متناسقاً أو متنافراً مع مقولاته، فإن سارتر قد بنى على المذكور سابقاً جملته المهمة: " إذا ما أخذ يفكر العالم أن غالبية الناس ليسوا مؤهلين للحكم على الأشياء أو رفضها لأنهم لا يستطيعون إدراكها فهو يمس بحكمه هذا صميم الطابع الكلي الشامل للعقل". و كان من المنطقي أن ينتقل سارتر إلى فكرة العنصرية، فلا يجوز للإنسان أن يكون عالماً و عنصرياً في نفس الوقت.
لكن العالم قد يتحول عنصرياً لسبب واحد، و هو العمل على خدمة من يمدونه بالأجر. فعلى العالم أن يرفض العنصرية، أي يرفض فكرة تفاوت المستويات الذهنية بين الأجناس البشرية. و قد طالب سارتر في محاضرته برفض كل أنواع التمييز، كذلك طالب بوحدة الفكر مرة أخرى، تلك التي إن لم تتحقق على مستوى كافة البشر، فعليها أن تتحقق بين العلماء. و يعود بنا سارتر إلى هؤلاء الأطفال اليابانيين، الذين سيخضعون لتربيتين مختلفتين، أحدهما في الطفولة و الأخرى في الشباب أثناء التعليم الجامعي، و يجعلنا نتصور كم التناقضات التي ستفور في الصدور، و الإضرابات التي تتكون في المرحلة الانتقالية، حيث يصبح العالم آلة في يد الطبقة الحاكمة التي صنعته، و ينشأ بينه وبينها صراع أكيد، بل ينشأ الصراع بالأساس بين نصفيه المتلاحمين، ذاك الذي تربى على الخنوع، و الآخر الذي استنشق الحرية مع المعرفة، و يدرك أنه نتاج طبقة متميزة عن باقي الشعب، و يمثل أحد انعكاسات هذه الطبقة، لكن عليه أن يصبح خادماً حراً للعلم لا للطبقة التي صنعته. و بالقياس فعلى العالم في أي مكان أن يرفض عبوديته لمن يدفع له. و في هذا المستوى من الصراع تحديداً يظهر المثقف أو لا يظهر، و هذه المرحلة لدى سارتر يطلق عليها "المرحلة الثقافية"، فعلى العالم أن يختار بين هذا الخنوع الذي تربى عليه، و بين مهنته وهي العلم. أي يختار بين كلاب الحراسة و بين أن يكون مثقفاً. و إذا اختار الثانية فعليه أن يمارس عملاً صعبا في ذاته، حيث عليه أن يرفض العنصرية و الامتيازات، بل و يرفض فكرة إنه إنسان خارق و متميز. و يصف سارتر المثقف في وقته بالمخلوق الغريب، و بناء على مقولات سارتر، فهذا الوصف يتم إطلاقه تجاوزاً. فهذا المخلوق الغريب هو الذي يقف بجانب الطبقة الحاكمة التي كونته، و تنظر إليه الطبقة الكادحة حينها بارتياب ، لأن حالته تجعله مشاركاً لأصحاب السلطة، و يمثل جزءاً من فائض القيمة. لقد استشهد سارتر بعمال بناء السد العالي، حينما سألهم عن سبب فرحتهم في لحظة تغيير مجرى مياه النيل، التي شاهدها في فيلم تسجيلي، فأجابه أحدهم بأن هذه الملايين من الفدادين التي سيتم استصلاحها بالمياه، سيعود أثرها على المجتمع بأسره. و علق سارتر بأن تخطي العامل لذاته لا يحدث في الدول الرأسمالية و لا البرجوازية. لكن الثقافة البرجوازية برأي سارتر تجثم على الصدور. و يستمر سارتر في بيان الارتباط بين العلم و العمل لدى المثقف، و يمكننا أن نستمر في عرض محاضرته و تحليلها إلى نهايتها، لكن التساؤل الذي يفرض نفسه هو، هل تجاوزنا في بلادنا تلك المرحلة الثقافية التي أشار إليها سارتر في محاضرة ألقاها وسط مجتمع مصر الذي وصفه بالثوري منذ حوالي أربعين عاماً، مما يؤهلنا لتتبع العلاقة لدى المثقف بين العلم و العمل؟ و أي مسمى يمكننا أن نطلقه على المرحلة التي يعيش فيها اليوم كل من المثقف الحقيقي، و المثقف الذي تطلق عليه هذه الصفة تجاوزاً، بل المرحلة التي يعيش فيها المجتمع بأسره؟ ربما تكون هذه الأسئلة هي الأجدر بالطرح حين نستعيد سارتر في مئويته، و معه نستعيد تلك المحاضرة التي ألقيت في قلب القاهرة...في جامعتها.

حوار سارتر مع الرئيس جمال عبد الناصر1967


حوار سارتر مع الرئيس جمال عبد الناصر1967
-      

    من كتاب "سارتر و الفكر العربي المعاصر "
-          تحرير : أحمد عبدالحليم عطية
ص180 إلى ص190

في يوم 9مارس 1967 كان " جمال عبد الناصر " يستقبل زائرين هما الفيلسوف الفرنسي الشهير " جان بول سارتر " ومعه الكاتبة الفرنسية الكبيرة "سيمون دي بوفوار". كان جمال عبد الناصر مهتما بلقاء "سارتر" و "دي بوفوار" وهما وقتها طليعة حركة التجدد الثوري في فرنسا وفى أوروبا فضلا عن أن "سارتر" كان مؤسس المدرسة الوجودية في الفلسفة وكانت "سيمون دي بوفوار " حليفه الضخم في معركة إعادة اكتشاف وتجديد حيوية المجتمعات الأوروبية في فترة منتصف الستينات وما حولها . وفى نفس الوقت كان "سارتر" و "دي بوفوار" متشوقين للقاء "جمال عبد الناصر" ويظنان أن لديهما الكثير يقولانه له ويسمعانه منه .

وتسجل الصفحة الأولى من محضر الاجتماع ترحيب " جمال عبد الناصر " بالاثنين ثم قول " سارتر " انه رأى السد العالي وزار الأرض الجديدة المستزرعة على مياهه كما شاهد المجتمعات السكانية الجديدة التي تقدمت إلى الحياة بعد تراجع الصحراء . ثم أضاف انه لم يكن يعرف الكثير عن الثورة المصرية ، وما كان يعرفه كان أكثره – بصراحة – من مصادر إسرائيلية أو غربية قد تكون معادية لمصر . بل انه يستطيع أن يشهد بهذا العداء بعد أن رأى ما رأى في مصر . لكنه يرى من واجبه أن يثير إلى جانب هذا موضوعا أخر يتعلق بحقوق الإنسان . فمنذ وصل إلى مصر تلقى في فندقه عددا من الخطابات يشكو له أصحابها من ضغط واقع عليهم . وبدأ " جمال عبد الناصر " يتحدث .

وتسجل الصفحة الثانية من المحضر قوله لـ "سارتر" : "إنني في حاجة إلى أن اطلب من أجهزة الأمن أن يبحثوا لي عن مرسلي هذه الخطابات إليك فأنت وأنا نستطيع أن نتصور نوع الناس الذين يعرفون في مصر عنك وعن السيدة سيمون بالطبع إنهم الطبقة التي تقرأ الفرنسية أو تقرأ غيرها من اللغات الأجنبية وتتابع الأدب العالمي . وأنا لا ألومهم إذا وجدوا سببا لان يكتبوا إليك . أستطيع وتستطيع معي أن تقطع إنهم من كبار الملاك السابقين وقد حددنا ملكياتهم ولا أظنهم يحبون ذلك أو يقبلونه وهم لا يستطيعون وقف حركة الثورة . وبالتالي لا مانع عندهم من أن يشتكوا إلى كل من يتصورون انه قادر على سماع صوتهم وعلى إسماعه . فهذه هي الطبيعة الإنسانية وأنا افهمها ولكني في الوقت الذي أرى فيه دموع الأغنياء لابد أن أتذكر قهر الأغلبية التي كانت غريبة في وطنها لا تملك فيه شيئا ".
وتسجل الصفحة الثالثة من المحضر قول "جمال عبد الناصر" لـ "سارتر" و"دي بوفوار" : "إن الناس بالطبيعة محافظون والملكية غريزة طبيعية في الإنسان ، فإذا أردت أن تقوم بتغيير في أوضاع الملكية فانك لا تصطدم فقط بالغريزة الطبيعية لدى الذين تمسهم إجراءاتك فحسب ، وإنما تصطدم بالغريزة الطبيعية لكثيرين ليسوا الآن من كبار الملاك لكنهم يحلمون أن يصبحوا كذلك في يوم من الأيام " .
وتسجل الصفحة الرابعة من محضر الاجتماع قول " جمال عبد الناصر " لـ "سارتر و "دي بوفوار" : " إن مرحلة الانتقال من مجتمع تسيطر فيه القلة على مجتمع تتحقق فيه عدالة التوزيع عملية في منتهى الصعوبة ، كما أن مرحلة الانتقال هذه هي اخطر المراحل في حياة المجتمعات لان التنظيم القديم للمجتمع يكون قد تهاوى، وفى نفس الوقت لا يكون التنظيم الجديد لهذا المجتمع قد قام بعد".
وتدخلت " سيمون دي بوفوار " في الحديث فسألت عن تعليم المرأة وتعدد الزوجات وتأثير الدين في حياة المجتمع ، ثم أضافت إلى هذه الكتلة من الأسئلة سؤالا أخر عن مشكلة زيادة عدد السكان .
وتسجل الصفحة التاسعة من محضر الاجتماع عن " جمال عبد الناصر " وسارتر ودى بوفوار عند سفح الهرم قوله لـ " سيمون دي بوفوار ": " أنني لا أريدك أن تأخذي بمقولة أن الإسلام يمكن أن يكون عائقا للتطور فميزة الإسلام في رأيي انه دين مفتوح على كل العصور وكل مراحل التطور . وأنا دائما انقل عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قوله داعيا الناس للاجتهاد إزاء مستجدات العصور " انتم اعلم بشؤون دنياكم ". وبالنسبة لتعدد الزوجات فانا لا أرى أن الإسلام يتركها رخصة مفتوحة وإنما هي رخصة مقيدة بشروط تجعل التعدد صعبا بل تكاد تجعله مستحيلا والدليل على ذلك ما نراه عمليا أمامنا ومؤداه أن ظاهرة تعدد الزوجات تتلاشى تدريجيا في المجتمع المصري .
وأما عن تعليم المرأة ، وأنا اعتبره الأساس الحقيقي لحريتها فسوف اطلب من مكتبي أن يبعثوا إليك بإحصائيات عن عدد "البنات" في مراحل التعلم المختلفة، وكذلك في مجالات العمل في مجتمع المدارس والجامعات الآن أكثر من مليون فتاة وفى مجالات العمل المختلفة الآن حوالي 2 مليون سيدة تعمل . وفى رأيي أن هذه حركة التطور حية ومرئية وأنا اعرف أن بعض المشايخ قد يقفون على منابر مساجدهم ليقولوا كلاما أخر ولكن كلامهم في اعتقادي غير مؤثر لان ضرورات التطور أقوى من كل ما يقولون . أما بالنسبة للزيادة في عدد السكان فانا اعرف أنها مشكلة قائمة فهناك زيادة سنوية في عدد السكان تقدر بـ 800 ألف. وفى أول الثورة كان تعدادنا 22 مليونا واليوم نحن 31 مليونا".
وتدخل " سارتر " في المناقشة ليقول انه لابد من أن حل على مستوى الدولة لهذه المشكلة واستطرد " جمال عبد الناصر " مستكملا عرض رأيه قائلا : "تستطيع أن تقوم بحملات دعائية كما تشاء ، ونحن أقمنا لجانا لتنظيم الأسرة في كل المدن والقرى ، وفى رأيي أن الحل الحقيقي ليس في أي حملات دعائية الحل الحقيقي في زيادة الإنتاج عن طريق استصلاح الاراضى والتصنيع ، وكذلك فان التعليم في رأيي هو أهم عنصر لأنه يبدو لي من الإحصاءات أن أبناء المتعلمين اقل من أبناء غير المتعلمين . فالمتعلم ينظم حياته على أساس موارده وأما غير المتعلم فيترك المسائل للمصادفات " .

ومرة أخرى قاطعه " سارتر " قائلا : " إن واحدا من المحافظين قال لي أن المشكلة مشكلة كهرباء ، فعندما يتم استكمال مشروعكم لكهربة الريف يدخل التليفزيون على أوسع نطاق ، وسيكون من اثر هذا أن الناس سيجدون شيئا أخر يسليهم غير ممارسة إنجاب الأطفال " .ومضى " جمال عبد الناصر " يستكمل حديثه ضاحكا وقائلا لـ "سارتر": "لكن المشكلة انه حتى إذا عممنا التليفزيون فان برامجه تنتهي في الساعة الحادية عشرة والنصف وبعدها فان الليل طويل . ولا يزال تقديري أن التعليم وزيادة الإنتاج تقدم أحسن وسائل للحل . على سبيل المثال كان عندي عشر أخوات ، واحد أصدقائي وهو الماريشال "عامر" كان عنده 13 أخا – ولكنني الآن عندي خمس أولاد . وأتصور أن أيا من أبنائي سوف يجد من الصعب عليه أن يكون عنده أكثر من اثنين أو ثلاثة " .

وتسجل الصفحة 28 من محضر الاجتماع حوارا بين "جمال عبد الناصر" و "سارتر" جرى على النحو التالي :

سارتر: "إن اليسار في أوروبا لا يستطيع أن يفهم موقفكم من حل الحزب الشيوعي المصري . لقد سمعنا أن هذا الحزب قد حل نفسه بنفسه ولا نتصور أن حزبا شيوعيا يتخذ مثل هذا الإجراء إلا تحت الضغط " . جمال عبد الناصر :" أي يسار في أوروبا هذا الذي تتحدث عنه ؟ هل هو يسار الاشتراكيين في فرنسا الذين يقودهم جى موليه والذين رأيناهم متواطئين في العدوان علينا سنه 1956 مع الاستعمار البريطاني ومع "إسرائيل" ؟ سارتر : "أنا لا اقصد موليه ولا اقصد الاشتراكيين الفرنسيين . الاشتراكيون الفرنسيون ضيعوا كل اختياراتهم التاريخية وانتهى بالتحالف مع اليمين ولذلك فإنهم خانوا " . جمال عبد الناصر :" الحقيقة أنني أسائل نفسي كثيرا هذه الأيام عن معنى هذه التعبيرات التي نستعملها بما فيها تعبير " الاشتراكيين " هذه التعبيرات في رأيي تحتاج إلى صياغات جديدة وعلى أي حال فسأعود إلى سؤالك نحن لم نمارس أي ضغط على الحزب الشيوعي لكي يحل نفسه وأظن أن عناصر كثيرة في هذا الحزب اكتشفت بالتجربة أن قضايا التطور تحتاج إلى تفكير جديد . هل أنت شيوعي ؟".
سارتر :"إنني ماركسي ولكني لا انتمى تنظيميا إلى حزب ". جمال عبد الناصر:" إنني مستعد أفهمك وأنا بالفعل افرق بين الماركسية والحزب الشيوعي . الماركسية فكر يطرح نفسه على الناس ويؤثر فيهم بقدرته على الحوار وإيجاد حلول لقضايا التطور والتقدم . وعندما تتحول الماركسية إلى حزب شيوعي فأنها تتحجر لأنها تدخل في قالب تنظيمي لا يسمح بالمراجعة والتجديد وإنما يوجه همه إلى التجميد والسعي للحصول على السلطة وبما أن الشيوعيين أقلية فإنهم يلجأون إلى العمل السري والى تنظيمات ما تحت الأرض شأنهم في ذلك شأن أقصى اليمين . ومع ذلك فانا أريد أن أسألك لماذا تسألني عن الحزب الشيوعي وحده ؟ إنني أفكر في تعددية من نوع جديد ولم اعثر على الصيغة الملائمة بعد . والحقيقة إنني أخشى من الحزبية فلو أبحنا الحزبية الآن وفى ظل الحرب الباردة التي تجرى على الساحة العالمية الآن لوجدتني على الفور أمام حزب شيوعي موال لروسيا وحزب رجعى موال للأمريكان وربما حزب ديني يؤدى قيامه إلى فتنه دينية في البلاد . ولهذا فالقضية في رأيي اكبر من الحزب الشيوعي". سارتر: "إنني لاحظت أن الرئيس وضع " إسرائيل " في نفس الصف مع الاستعمار البريطاني وقوى اليسار الفرنسية التي خانت رسالتها وهذا يعقد الأمور في الشرق الأوسط ".
جمال عبد الناصر : " الذي يعقد الأمور ليس إنني أضعهم في هذا الصف أو ذلك ولكن الذي يعقدها فعلا هو "إسرائيل" . لا يمكن لأي جماعة من الناس أن ينقضوا على بلد ويأخذونه لأنفسهم ويحولوا سكانه الأصليين إلى مواطنين من الدرجة الثانية ، الذي يعقد الأمور هو ضياع الحقوق العربية في فلسطين . بعض الناس يتصورون أن هذا الجيل من الشعب الفلسطيني تعود على ضياع وطنه وانه يموت أو يكاد يموت . وينسون في هذا أن جيلا جديدا سوف يظهر جيل لا يشعر بالضياع ولا يشعر بالمهانة وهذا الجيل سوف يقاوم ليحصل على حقوقه الإنسانية أولا ثم الوطنية وهكذا والشئ الثاني الذي يعقد الأمور في موضوع "إسرائيل" ليس تصنيفا لها ، وإنما علاقتها بالولايات المتحدة وهو موضوع يدفع المنطقة الآن إلى حافة الحرب فـ "إسرائيل" تريد التوسع وتريد أن تفرض هذا التوسع بالقوة وهذا معناه الحرب" .

سارتر :" هناك مجموعات في " إسرائيل " خصوصا من اليسار يتفهمون قضية الشعب الفلسطيني ".
جمال عبد الناصر : "الموضوع ليس موضوع مشكلة تفهم وإنما الموضوع يتلخص في مشكلتين : المشكلة الأولى الهجرة لـ " إسرائيل " باستمرار الهجرة لن تتسع " إسرائيل " للقادمين إليها وستلجأ للتوسع وهذا يؤدى إلى الحرب والمشكلة الثانية انه إذا كان هناك من يتفهم مشكلة الشعب الفلسطيني كما تقول من عناصر اليسار الاسرائيلى فلا أظن أن لديهم ما هو أكثر من الألفاظ والتعاطف بها ببساطة لان أهم حقوق الفلسطيني هي حق العودة فإذا عادوا فسيصبحون أغلبية وعندئذ تذوب فكرة دولة " إسرائيل ".

وتسجل صفحة 48 من محضر الاجتماع ردا لـ " جمال عبد الناصر " على سؤال وجهه إليه " سارتر " عن القضية التي تشغله الآن أكثر من غيرها وكان قوله : "العالم كله يحاول إخراج الشباب من السياسة ويحاولون الهاءهم بأنواع من الرقص الجديد ويحولون اهتمامهم إلى الرياضة وأنا أرى ذلك خطرا كبيرا(*) القضية التي أتمنى لو استطعت أن أركز عليها هي أن يشعر الشباب أن السياسة هي عملية صنع مستقبله وان اهتمامه بها ومشاركته فيها هما اكبر ضمانات المستقبل . ما أراه في الاتحاد السوفيتي وما أراه في غيره يجعلني اقلق لان الأجيال القديمة تحجب أجيالا جديدة عن المشاركة وهذه مشكلة فإذا حجبنا الشباب عن العمل السياسي تتوقف حيوية الأنظمة ويزداد الاعتماد على عناصر القوة في المجتمع مثل الجيش مثلا . وهذه ليست وصفة مضمونة لحماية التطور ".

السبت، 9 مارس 2013

القومية والأممية في بناء الحزب العمالي الثوري


القومية والأممية في بناء الحزب العمالي الثوري





- صلاح جابر 

إن مبدأ تنظيم الحزب العمالي الثوري ـ على أساس قومي أو متعدد القوميات؟ ـ هو إحدى أعقد المشاكل التي تعترض تقليديا مسيرة بنائه في كل دولة تضم أكثر من قومية واحدة، ضمن حدود سلطتها المركزية المتمحورة حول عاصمتها وفي نطاق التواصل الجيوغرافي. والغاية من هذه الدقة في التعريف لهي استثناء الحالات حيث تخضع لدولة "المتروبول" [1] بلاد معزولة جيوغرافيا عنها، كما كانت حال الجزائر بالنسبة لفرنسا أو كما لا تزال حال إيرلندا الشمالية بالنسبة لبريطانيا: في مثل هاتين الحالتين، نكاد لا نجد اليوم داخل الحركة الثورية من ينكر ضرورة بناء تنظيم ثوري منفصل في البلد الخاضع، تنظيم تشدّه إلى التنظيم الثوري في "المتروبول" أواصر التضامن والتعاون الوثيق الأمميين، لكنه مستقل عنه حيث أن هدفه الاستراتيجي الأول، ألا وهو تحقيق الاستقلال القومي، يمكن بلوغه بدون أن يتطابق بالضرورة مع الهدف الاستراتيجي الأول لحزب "المتروبول"، الذي هو إطاحة الحكومة البورجوازية في بلاده.

في الحالات التي تهمنا، حالات التواصل الجيوغرافي والقمعي ـ كما هي، مثلا، حال بلاد الباسك التي تتقاسم السيطرة عليها الدولتان الإسبانية والفرنسية ـ وطبعا، حالات الاختلاط الجيوغرافي الكامل ـ كما هي حال الشعب الأسود في الولايات المتحدة الأمريكية إزاء الأغلبية البيضاء، على سبيل المثال ـ في هذه الحالات وتلك، تلد المشكلة بالضبط من أن التواصل أو الاختلاط يحتمان على الأقليات القومية المقهورة معبرا ضروريا إلى تحررها القومي، هو تضافر نضالها مع نضال المقهورين اجتماعيا داخل الأكثرية القومية (ونضال سائر الأقليات المقهورة، إذا وُجدت)، من أجل إطاحة حكومة القهرين الاجتماعي والقومي. هذه الحالات التي سنتناولها في هذا المقال، هي التي تهمنا بوجه خاص لأننا نواجه مثلها في منطقتنا العربية: إنها حالة كردستان التي تتقاسم السيطرة على أرضها وشعبها دولتان عربيتان هما العراق وسوريا إضافة إلى تركيا وإيران. وهي حالة الأقليات غير المعرّبة في جنوب السودان وموريتانيا والمغرب والجزائر (مع الفارق الواضح في طابع وحدّة المشكلة في كل حالة)، وهي حالة العرب الخاضعين مباشرة لسيطرة الدولة الصهيونية، سواء ضمن حدود ما قبل حرب يونيو 1967 أو في الأراضي المحتلة بعدها. كما تنطرح مشكلة مماثلة، وإن لم تكن ذات طابع قومي، هي مشكلة اللاجئين الفلسطينيين المنتشرين في الأردن ولبنان وسورية.

هذا وليست غايتنا في هذا المقال أن نتناول هذه الحالات العينية الخاصة بمنطقتنا، بل أن نستعرض بالخطوط العريضة تراث الماركسية الثورية إزاء مشاكل مشابهة[2]. والحال أن مسار بناء الحزب العمالي الثوري ("الاشتراكي الديموقراطي"، حسب مدلول هذا التعبير قبل سنة 1917) في الإمبراطورية الروسية، الذي يشكل أهم مرجع كلاسيكي في شؤون التنظيم الثوري ولبّ ما يسمى باللينينية، أن ذلك المسار قد واجه عدة مشاكل من طينة التي عددناها، وأشهرها مشكلة بولندا التي كانت روسيا تسيطر على قسمها الأكبر (وتتقاسم الباقي ألمانيا والنمسا ـ المجر)، ومشكلة اليهود [3] المنتشرين في شتى مناطق الشطر الغربي من الإمبراطورية القيصرية.

-          حزب متعدد القوميات أم اتحاد أحزاب قومية؟ ـ التجربة الروسية.


إن النقاش الحاد الذي دار حول مفهوم التنظيم العمالي في صفوف الحركة الاشتراكية في الإمبراطورية الروسية (روسيا، اختصارا)، في أوائل هذا القرن، والذي أدى إلى عدة انقسامات في تلك الحركة، قد تمحور حول خطين فاصلين لا تطابق بينهما: الخط الفاصل الأول ميّز "الاتحاديين"، دعاة اتحاد المنظمات القومية، عن "المركزيين"، دعاة الحزب المركزي متعدد القوميات، أما الخط الفاصل الثاني، فقد ميّز البلاشفة، دعاة الحزب "النخبوي" ذي الانضباط الصارم، عن المناشفة وسواهم، دعاة الحزب مائع الحدود والبنية.

ومما يؤكد الاختلاف النوعي الكامل بين الانقسامين، أن أقطاب الجدال حول مركزية التنظيم وطبيعة عضويته ـ لينين، مارتوف، روزا. وتروتسكي ـ كانوا جميعا على أتم الاتفاق حول مبدأ الحزب المركزي متعدد القوميات، أي حزب الطبقة وليس حزب القومية. لا بل يمكن القول أن أكثر أعداء المفهوم القومي للحزب حماسا لم يكن لينين، منظّر المركزية الصارمة، بل أخصامه الثلاثة، أنصار الفهم التقليدي (في ذلك الحين) لحزب واسع عريض.

فكما تقول روزا لوكسمبورغ ذاتها في نقدها الشهير لتصورات لينين حول "مسائل تنظيم الاشتراكية الديمقراطية الروسية" (1904):

"لا يمكن أن نشك في أنه، بوجه عام، يلازم الاشتراكية الديمقراطية ميل قوي إلى المركزة. ذلك أن الاشتراكية الديمقراطية، قد نمت على الأرض الاقتصادية الخاصة بالرأسمالية، التي هي ممركزة بجوهرها، ولكونها تناضل ضمن الأطر السياسية للمدينة البورجوازية الكبيرة والمركّزة، الاشتراكية الديمقراطية إذن هي معادية بشدة لكل مظهر من مظاهر الإقليمية أو الاتحادية القومية. وبما أن مهمتها تكمن في أن تمثل، ضمن حدود دولة ما، المصالح المشتركة للبروليتاريا بوصفها طبقة، وأن تواجه بهذه المصالح العامة جميع المصالح الخاصة والفئوية، فإن لدى الاشتراكية الديمقراطية ميل طبيعي إلى توحيد جميع تجمعات العمال في حزب واحد، مهما كانت الفروقات من النمط القومي أو الديني أو المهني بين أعضاء الطبقة ذاتها هؤلاء. ولا تحيد الاشتراكية الديمقراطية عن هذا المبدأ وتنقاد للاتحادية إلا في شروط خارقة للعادة بشكل استثنائي، كما هي مثلا حال مملكة النمسا ـ المجر[4]. من وجهة النظر هذه، لا يمكن أن يكون ثمة أي شك في أنه ينبغي على الاشتراكية الديمقراطية الروسية ألا تشكل تكتلا اتحاديا للقوميات والإقليميات المحلية التي لا تحصى، بل أن تشكل حزبا واحدا لعموم الإمبراطورية. لكن المسألة المطروحة لمختلفة، وهي مسألة درجة المركزية المناسبة، بأخذ الشروط الراهنة في الحسبان، داخل الاشتراكية الديمقراطية الروسية، الموحدة والواحدة".


مشكلة التنظيم البولندي قبل عام 1903


والحال أن روزا كانت قد ساهمت، في بداية حياتها النضالية، في تأسيس حزب على أساس قومي، هو "الحزب الاشتراكي البولندي"، الذي تأسس سنة 1892 كحزب لعموم بولندا التاريخية بأقسامها الثلاثة، يدعو إلى استقلالها وتوحيدها. وما لبثت روزا أن انشقت عن ذلك الحزب، مشمئزة من النزعة القومية التي وجدتها لدى قادته، لتؤسس سنة 1894 "الاشتراكية الديمقراطية في مملكة بولندا"، وهي منظمة خاصة بذلك القسم من بولندا التاريخية الخاضع للإمبراطورية الروسية، تعتبر نفسها محطة قطرية على طريق بناء حزب اشتراكي عمالي لعموم روسيا، تنتظر تأسيسه كي تلتحق به وتدعو الاشتراكيين البولنديين في المنطقتين الخاضعتين لألمانيا والنمسا إلى الالتحاق كذلك بالاشتراكية الديمقراطية في كلتا الإمبراطوريتين.

كان الفرق بين حزب 1893 ومنظمة روزا واضحا أصلا في اسميهما: فبينما الأول يعتبر نفسه حزبا، وهو ذو صفة قومية إذ هو "بولندي"، لم تطلق الثانية على نفسها اسم "الحزب" لرغبتها في أن تكون جزءا من حزب أشمل وحددت نفسها على أساس جيوغرافي ـ سياسي، وليس قوميا، هو إطار "مملكة بولندا"، بصرف النظر عن الانتماء القومي لسكان ذلك القطر وبرفض شمول المنظمة للقسمين الآخرين من بولندا التاريخية، الواقعين ضمن حدود دولتين أخريين.

يمكن أن يرى بعض الناس في موقف روزا نوعا من "تقديس" الحدود الدولانية القائمة، لاسيما وأنه توجد في كتاباتها أحيانا مغالاة في هذا الاتجاه. بيد أن حقيقة الأمر غير ذلك، حيث أن فكر روزا كان أعمق من أن ترى في بناء حزب العمال وفق حدود الدولة القائمة مبدأ مطلقا. فإن الأساس الحقيقي لتصورها بالنسبة لبولندا كان قناعتها الراسخة بالاستحالة الاستراتيجية، في الظروف الراهنة آنذاك، لتحرير بولندا من النير القومي بمعزل عن انقلاب عام للوضع في الإمبراطوريات الثلاث، أو في روسيا على الأقل. أي أن دعوة روزا إلى أن يلتحق العمال البولنديون بالحزب الاشتراكي الديموقراطي في كل من روسيا وألمانيا والنمسا، لم تكن تمتّ بأي صلة إلى "القانون الدولي"، بل كانت نابعة من فهم طبقي للاستراتيجية الثورية، هو الذي شرحته سنة 1896 في مقال حول "المسألة البولندية"، كتبته قبيل انعقاد مؤتمر الأممية الثانية في لندن:

"في وجه الحكومات الثلاث التي تهيمن على بولندا، وفي مواجهة بورجوازية مملكة بولندا التي تمتدح عرش سان ـ بطرسبورغ (أي العرش القيصري ـ ص ج) وتعتبر كل فكرة تتعلق بقيام بولندا من جديد كأنها جريمة وتعدّي على ممتلكاتها، وأيضا في وجه الملاك العقاريين الكبار في غاليسيا (قسم بولندا الواقع تحت سيطرة النمسا ـ ص ج) الذي يمثلهم شخص بادٍني، رئيس الحكومة، والذين ينوون المحافظة على وحدة المملكة النمساوية، أي على تقسيم بولندا، وأخيرا في وجه الملاك الكبار البولنديين ـ البروسيين الذين يصوّتون لصالح الموازنة العسكرية، أي لصالح الإكثار من الحراب التي تضمن ضمّ بولندا ـ ماذا يمكن للبروليتاريا أن تفعل في مثل تلك الظروف؟ فإذا انتفضت، سيجري قمعها قمعا دمويا، لكن بدون انتفاضة، لن يحصل شيء. ذلك أن استقلال بولندا لا يمكن الحصول عليه، طبعا، بغير انتفاضة مسلحة. ولن ترضى أي دولة من الدول الثلاث بأن تتخلى طوعا عن قطر تهيمن عليه منذ مائة عام. والحال أنه، في الظروف الراهنة، لا يمكن أن تؤدي الانتفاضة سوى إلى سحق البروليتاريا".

من هنا إصرار روزا على ضرورة التحام نضال البروليتاريا البولندية بنضال بروليتاريا سائر القوميات في إطار كل من الإمبراطوريات الثلاث. من هنا إصرارها على ضرورة التحاق الماركسيين البولنديين، أو التحاق منظماتهم، بالحزب الاشتراكي لكل من روسيا وألمانيا والنمسا، بدل تشكيل "حزب بولندي" عبر حدود الدول الثلاث. أما مصدر خطأ روزا في تفهّم المسألة القومية، كما اتضح في المناقشة التي دارت لاحقا بينها وبين لينين في ذلك الصدد، فقد كمن في أنها استنتجت بشكل "ميكانيكي" من استحالة انتصار البروليتاريا البولندية بقواها الذاتية منعزلة ـ وهي فكرة صحيحة كليا، في مثل تلك الظروف (لاحظوا أن الظروف ذُكرت مرّتين في الاستشهاد الوارد أعلاه) ـ استنتجت أن التحرر القومي مرهون بانتصار الثورة الاشتراكية، وليس بانقلاب الظروف الاستراتيجية وحسب، وأن المطلب القومي الأساسي، ألا وهو مطلب تقرير المصير بما فيه حق الانفصال، من شأنه فقط بالتالي أن يكون سلاحا بورجوازيا ضد الثورة البروليتارية القادمة. وقد كانت روزا بذلك في تناقض مع الحيثيات الواردة أعلاه، التي تشير إلى رفض الطبقات الحاكمة البولندية فكرة استقلال بولندا. فقد أغفلت روزا أنه، والظروف تلك، بإمكان البروليتاريا البولندية أن تجعل من فكرة الاستقلال القومي، إذا أحسنت استعمالها، سلاحا ماضيا بأيديها ضد تلك الطبقات، وضد شقيقاتها الروسية والألمانية والنمساوية وأن تقطع بالتالي الطريق أمام استعمال تلك الفكرة ضدها. وعلى أي حال، هذا موضوع خارج عن نطاق هذا المقال، ومتميّز عن موضوع التصوّر الأممي للحزب العمالي الثوري، الذي لم يختلف عليه قط لينين وروزا.


مشكلة التنظيم اليهودي (البوند) قبل عام 1903


كانت مشكلة تنظيم اليهود داخل الإمبراطورية الروسية مختلفة نوعيا عن مشكلة التنظيم البولندي، بحكم الفارق النوعي بين ظروف "إقامة" القوميتين. فإن السكان اليهود في إطار الدولة الروسية، كما في جميع الدول الأخرى أصلا، لم تكن لديهم أرض خاصة بهم يتركّزون عليها، بل كانوا مشتّتين في أرجاء الشطر الغربي من الإمبراطورية، يقطنون وسط مناطق قومياتها المختلفة (بولندا، ليتوانيا، ليتونيا، أوكرانيا، روسيا، الخ). فإذا كان ثمة مجال للنقاش حول الاستراتيجية الثورية بالنسبة لبولندا وهل يمكن تحرر بولندا القومي بقواها الذاتية منفردة أم لا، فإن المجال لمثل هذا النقاش بالنسبة لليهود كان معدوما ـ إلا في حالة واحدة وحيدة: في حال تبنّي الفكرة الصهيونية الداعية إلى تجميع اليهود وتركيزهم في بقعة واحدة. في فلسطين مثلا... علما بأن الحركة الصهيونية ابعد ما تكون عن أنها حققت مرماها بقواها الذاتية !

والحال أن "الاتحاد العام للعمال اليهود في ليتوانيا وبولندا وروسيا" الذي تأسس سنة 1897 والذي اشتهر باسم البوند، كان صارما في عدائه للصهيونية، يدينها بوصفها طوبى رجعية خطيرة. وكان البوند يطالب بمنح اليهود "إدارة ذاتية قومية ثقافية" [5]، تلك الصيغة العرجاء التي أثارت جدالا واسعا في روسيا وحاربها لينين وتروتسكي ومارتوف [6] والكثيرون غيرهم، والتي كان البوند يقصد بها منح يهود الإمبراطورية الروسية، حيث وُجدوا، "إدارة ذاتية" في الشؤون التعليمية والثقافية [7]. وإنه لمن البديهي بالنسبة لمن يتبنّى مثل هذا الهدف البرنامجي، أن يقرّ باستحالة تحقيقه بقوى السكان اليهود الذاتية، وأن يسعى بالتالي وراء نسج علاقات مع الحلفاء الاستراتيجيين الذين لابدّ من كسب دعمهم، لا بل مشاركتهم الفعالة في رفع نير الاضطهاد القومي عن اليهود. هؤلاء الحلفاء كانوا، في ظروف روسيا القيصرية، يتمثلون في المقام الأول بالحركة العمالية لشتى القوميات، ولاسيما القومية المسيطرة. أي أنه كان لامناص للبوند من أن يرتبط بحركة عمال عموم روسيا في حلف بدونه فإن النضال القومي الديموقراطي الذي نذر البوند نفسه لأجله ـ ناهيكم بالنضال الطبقي، حيث أن البوند اتحاد عمالي اشتراكي ! ـ يبدو يائسا لا آفاق له.

إن فهما عماليا حقيقيا لهذه الاعتبارات كان يقتضي أن ينشط الاشتراكيون اليهود مباشرة في إطار حزب لعموم قوميات روسيا، حزب يتولى بالطبع مهمة الدفاع عن الحقوق القومية والديمقراطية لجميع المقهورين في الإمبراطورية. وبالأصل، فإن العديدين من أبرز قادة ومناضلي الاشتراكية الديمقراطية في روسيا، بجناحيها كما تبلورا بدءا من عام 1903، كانوا من أصول يهودية. أي أن النشاط في إطار البوند، بوصفه تنظيما خاصا بالاشتراكيين اليهود، لم يكن قط الخيار الوحيد أمام هؤلاء. بل إن تشكيل البوند كان بذاته خيارا ذا طبيعة قومية وليست أممية، طبيعة هي مدوّنة أصلا في اسمه حيث أنه يحدد الصفة القومية لأعضائه بشكل هو بعد أوضح مما لدى "الحزب الاشتراكي البولندي". والحال أن البوند، لو أراد بناء نفسه على أساس جيوغرافي وليس قوميا، لما وُجد، بل لتطابق أساسا مع الحزب العمالي لعموم روسيا.

فسوف يحاول البوند منذ تأسيسه، وحتى انحلاله بعد الثورة البلشفية، أن يوفّق بين نزعته القومية الأصلية وخصوصية شروط النضال الذي حدده مهمة لنفسه، مضافا إليهما التوجه العمالي المذكور أيضا في اسمه. هكذا سوف يشارك، سنة 1898، في مؤتمر تأسيس "الحزب العمالي الاشتراكي الديموقراطي في روسيا" (لاحظوا انعدام الصفة القومية في الاسم: "في روسيا" وليس "الروسي"). في ذلك المؤتمر الذي كانت له قيمة رمزية ليس إلاّ ـ إذ جرى اعتقال المندوبين التسعة الذين حضروه، بعد انتهائه توا، فبقي "الحزب" الجديد بدون أطر مركزية حتى مؤتمره الثاني، بعد خمس سنوات ـ في ذلك المؤتمر إذن، انتسب البوند إلى الحزب على أساس قرار مُبهم ينص على أن البوند ينتسب بوصفه "منظمة مدارة ذاتيا، مستقلة فقط في المسائل التي تتعلق بالبروليتاريا اليهودية بصورة خاصة". هذا القرار كان يثير من الإشكالات أكثر مما يحلّ ! إلا أنه لم يطبّق قط حيث أن "الحزب" ظل بدون هيكل حتى عام 1903.

ومع ذلك، فإن صيغة القرار المذكور كانت على إبهامها كافية لتثير جدالا واسعا، في صفوف البوند وخارجها، حول طبيعة العلاقات التنظيمية التي لابد من أن ينشأ على أساسها حزب عمال روسيا. فرأت قيادة البوند بغالبيتها أنها، إذا "اكتفت" بالإدارة الذاتية "الثقافية" كمطلب برنامجي، فإنها لا تستطيع أن تكتفي بالإدارة الذاتية التنظيمية في الشؤون الخاصة بالعمال اليهود دون سواها، وفي إطار حزب مركزي متعدد القوميات. لذا ارتد البوند عن قرار 1898، وأخذ يطالب، منذ عام 1901 بتحويل الحزب إلى "جمعية اتحادية من الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية لجميع الأمم داخل حدود الدولة الروسية". هذا وقد أدى تثبيت منحى البوند القومي وتبنّيه فكرة اتحاد الأحزاب القومية، بدل الحزب متعدد القوميات، أدّيا إلى انسلاخ بعض مناضليه عنه، أبرزهم مارتوف الذي، بعد أن ساهم في تأسيس البوند، تخلّى عن فكرة التنظيم المنفصل الخاص بالعمال اليهود، وتعاون مع لينين وبليخانوف وغيرهما في إطار مجموعة "الايسكرا" التي ستبادر إلى تأسيس الحزب من جديد بالدعوة إلى عقد مؤتمره الثاني، سنة 1903.

المركزية مع إدارة ذاتية ضد الاتحادية: مؤتمر 1903

إن التناقض في صيغة قرار 1898 كامن في اعترافه بالبوند كمنظمة مميّزة و"مدارة ذاتيا"، وحصره هذه الإدارة الذاتية في الشؤون الخاصة بالعمال اليهود، الأمر الذي يعني منطقيا خضوع البوند لمركزية الحزب في شتى الأمور الأخرى. وقد جاء البوند إلى المؤتمر الثاني "للحزب العمالي الاشتراكي الديموقراطي في روسيا" (حعادر)، مطالبا بحسم ذلك التناقض عبر تحويل الحزب إلى اتحاد أحزاب قومية يكون البوند أحدها.

أما الأيسكريون، فقد جاؤوا بتصورات تحسم التناقض في الاتجاه المعاكس، اتجاه الحزب المركزي متعدد القوميات، بحيث ينصهر أعضاء الحزب في جميع المناطق بصرف النظر عن هوياتهم القومية أو غيرها، وبالتالي يزول البوند بوصفه منظمة مميّزة ذات مركزية خاصة بها، أي منظمة موازية لحعادر إذ أنها منتشرة في شتى مناطق روسيا ـ مع التأكيد على مبدأ الإدارة الذاتية الذي يعني بالنسبة للاشتراكيين اليهود إدارة ذاتية محلّية في تطبيق سياسة الحزب المركزية، ويعني بالنسبة لاشتراكيي سائر القوميات إدارة ذاتية إقليمية (أو قطرية) في تطبيق السياسة المركزية ذاتها.

لقد رفض البوند موقف الأيسكريين رفضا باتا. ولم يكن هذا الرفض نابعا من تمايز سياسي يحرص البونديون على صيانته: فلو انصهروا في حعادر لشكّلوا غالبيته بكل سهولة، إذ أن عدد أعضاء البوند كان يفوق عدد أعضاء مجموع سائر التنظيمات التي شاركت في مؤتمر 1903. بل كان رفض البونديين للانصهار نابعا من حرص قومي صرف على عدم "تذويب" تنظيم العمال اليهود في بوتقة حزب متعدد القوميات، لابد عاجلا أم آجلا من أن يضمّ غالبية من غير اليهود ! وكان لينين يردّ على هذا "التخوف" عندما كتب (15 فبراير 1903):

"إن "الإدارة الذاتية" الواردة في النظام الداخلي لعام 1898، تضمن للحركة العمالية اليهودية كل ما يمكن أن تحتاج إليه: الدعاوة والتحريض باللغة اليدّية، منشورات ومؤتمرات، تقديم مطالب خاصة في تطوير البرنامج الاشتراكي الديموقراطي الواحد المشترك، وتلبية الحاجات المحلية والمطالب المحلية الناجمة عن خصائص طريقة العيش الإسرائيلية (أي اليهودية بالمعنى الديني ـ ص ج). أما في كل ما تبقّى، فإن الانصهار الكامل والأوثق مع البروليتاريا الروسية لهو ضروري، ولا غنى عنه لمصلحة نضال مجموع بروليتاريا روسيا. وأما بالنسبة لجوهر الأمور، فلا داعي إطلاقا للتخوف، أن يؤدي هذا الانصهار إلى "غلبة أكثرية" أيا تكن، إذ أن الإدارة الذاتية تشكل بالضبط ضمانة ضد تدخل الأكثرية في الشؤون الخاصة بالحركة اليهودية، في حين أنه، في مسائل النضال ضد الحكم الفردي، مسائل النضال ضد بورجوازية عموم روسيا، يتوجب علينا أن نعمل كمنظمة كفاح موحّدة وممركزة، ينبغي أن تستند إلى مجموع البروليتاريا، بدون تمييز في اللغة أو القومية، مجموع بروليتاريا ملتحمة في جهد مشترك وثابت لحل المسائل النظرية والعملية والتكتيكية والتنظيمية، وليس أن نخلق منظمات تسير كل واحدة على حدة، كل واحدة في دربها، ليس أن نضعف قوى هجومنا بتجزئته إلى عدة أحزاب سياسية مميَّزة...".

هذا وقد كانت حصيلة مشاركة البوند في مؤتمر سنة 1903، أن انسحب منه قبل انتهائه منشقا بذلك عن الحزب، بعد أن رفض سائر أعضاء المؤتمر بالإجماع اقتراحا قدّمه البونديون، ينص على الاعتراف بالبوند كممثل وحيد للبروليتاريا اليهودية، وبالتالي التنظيم الوحيد المخوّل للنشاط الاشتراكي الديموقراطي في صفوف العمال اليهود. كان ذلك الاقتراح في جوهره تلخيصا لتصورات البوند القومية والاتحادية، يؤول ليس إلى منع حعادر من تمثيل كافة عمال روسيا، بمن فيهم العمال اليهود، وحسب، بل أيضا نزع أي صفة تمثيلية عن أعضاء حعادر اليهود غير البونديين !

أما "الاشتراكية الديمقراطية في مملكة بولندا وفي ليتوانيا [8]" (ادمبل)، فقد حضر مندوبوها أيضا مؤتمر حعادر الثاني، انسجاما مع دفاع المنظمة الحار عن مبدأ الحزب العمالي متعدد القوميات لعموم الإمبراطورية الروسية. إلا أن أولئك المندوبين انسحبوا هم أيضا من المؤتمر، لكن لاعتبارات هي على نقيض تلك التي انسحب البونديون بسببها !

فإن مجال الخلاف حول شؤون تنظيمية بين مندوبي ادمبل وأعضاء مؤتمر حعادر كان ضيقا جدا. كان ثمة اتفاق تام بين الطرفين حول مبدأ بناء الحزب. وإذا صح أن الاتفاقات المبدئية لا تلغي إمكانية الخلافات حول تطبيقها ـ وقد جرت فعلا بعض المناقشات التفصيلية بين مندوبي ادمبل وقادة حعادر في هذا الصدد ـ فإن هذه الإمكانية كانت محصورة وثانوية بالضرورة، إذ أن مبدأ الإدارة الذاتية الإقليمية الذي أقرّ به حعادر كان كفيلا بإرضاء قيادة ادمبل وإزالة أي "تخوفات" لديها. ذلك أن ادمبل، خلافا للبوند، كانت منظمة إقليمية، بما يسمح لها بالاحتفاظ ببنيتها التنظيمية، رغم التحاقها بحزي عموم روسيا، ويسمح لها بممارسة "إدارة ذاتية" واسعة بوصفها منظمة الحزب المميّزة في إقليمي بولندا وليتوانيا [9].

بيد أن الذي أثار سخط ادمبل وانسحاب مندوبيها من مؤتمر 1903، لهو صدور مقال للينين في جريدة "الايسكرا" (15 يوليو 1903)، ورد فيه أن برنامج الاشتراكية الديمقراطية الروسية "لا يمنع أبدا أن تتبنى البروليتاريا البولندية شعار جمهورية بولندا حرة مستقلة، حتى ولو كان احتمال تحقيقه قبل قيام الاشتراكية ضئيلا جدا". فقد استاءت قيادة ادمبل استياء شديدا من ذلك المقال، بالرغم من أن قسمه الأكبر كان مكرّسا لنقد خصم ادمبل، "الحزب الاشتراكي البولندي". وطلبت، في ضوء المقال، بتعديل مشروع برنامج حعادر بحيث تُحذف منه فكرة حق الأمم المقهورة في الانفصال. وطبعا رُفض الطلب، فقررت قيادة ادمبل عدم الانتساب إلى الحزب. وهكذا، فبينما انشق البوند بسبب نزعته القومية، انسحبت ادمبل بسبب عدائها المتطرف للقومية !


"مؤتمر التوحيد" ـ 1906


كان لثورة 1905 تأثير جاذب كبير على الحركة العمالية الثورية في روسيا، دفع معظم التنظيمات القومية في تلك الحركة إلى توحيد قواها. فباستثناء بعض الجماعات القومية أكثر منها اشتراكية ـ بينها تنظيم أوكراني وآخر أرمني ـ اندمجت شتى المنظمات العمالية في إطار حعادر. وقد تكرّس ذلك الاندماج بقرار من المؤتمر الرابع للحزب، المنعقد في عام 1906 والمعروف باسم "مؤتمر التوحيد".

كانت أطراف التوحيد الأساسية، إلى الأعضاء الأصليين لحعادر بجناحيه المنشفي والبلشفي، ادمبل و"الحزب الاشتراكي الديموقراطي في ليتونيا" [10] ، وحتى البوند الذي واجهت قيادته ضغطا قاعديا قويا من أجل الاشتراك في التوحيد. إن أهمية ذلك الحدث تنجلي عند الاطلاع على أحجام المنظمات المشاركة، حسب الأرقام التي أوردها لينين: 31 الف عضو في حعادر الأصلي، 14 ألف عضو في الحزب الليتوني، 26 ألف عضو في ادمبل و33 ألف عضو في البوند !

إن قرار التوحيد الذي تبنّاه مؤتمر 1906، قد استند إلى أرضية اقترحها الجناح البلشفي، وقد صاغها لينين. جاء فيها في صدد "الموقف إزاء الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية القومية" ما يلي:

"1) لابد من اتخاذ أنشط الإجراءات من أجل الوصول بأسرع ما يمكن إلى انصهار جميع أحزاب روسيا الاشتراكية الديمقراطية القومية في حزب واحد، الحزب العمالي الاشتراكي الديموقراطي في روسيا.

2) يجب أن يكون أساس التوحيد هو الانصهار الكامل لجميع التنظيمات الاشتراكية الديمقراطية في كل محلّة.

3) يتوجب على الحزب أن يضمن فعلا تلبية جميع المصالح الحزبية وجميع حاجات البروليتاريا الاشتراكية الديمقراطية من كل قومية، ولاسيما بأخذ خصائص طريقة عيشها وثقافتها بالحسبان. إن وسائل تأمين تلك الضمانات يمكن أن تكون التالية: تنظيم كونفرنسات خاصة للاشتراكيين الديموقراطيين من كل قومية، تمثيل الأقليات القومية في مؤسسات الحزب المحلية والإقليمية والمركزية، خلق مجموعات خاصة للإنتاج الأدبي والنشر والتحريض، الخ".

لقد تضمن أساس التوحيد هذا نوعا من المقايضة: صهر التنظيمات القاعدية على أساس جيوغرافي صهرا كاملا ! مثلا (دمج المناضلين البولنديين واليهود والروس القاطنين في مدينة واحدة، في تنظيم محلّي واحد)، ومقابل ذلك منح الأقليات القومية ضمانات خاصة بتمثيلها في هيئات الحزب القيادية على جميع المستويات، من المحلي إلى المركزي. وقد خُصّص بالفعل مقعدان للبوند ومقعدان لادمبل ومقعد واحد للحزب الليتوني في اللجنة المركزية لحعادر. ولم يكن في تلك المقايضة أي مشكل بالنسبة لمنظمة بولندا ـ ليتوانيا ومنظمة ليتونيا، علما بأن درجة امتثالهما لمركزية الحزب كانت متفاوتة جدا في السنوات اللاحقة.

أما بالنسبة للبوند، فالإشكال كان عظيما، إذ أن تطبيق مبدأ صهر التنظيمات القاعدية كان يعني في حالته تذويب نفسه بوصفه منظمة ذات هيئات مركزية، كما سبق وشرحنا، والحال أن البوند ما لبث أن تخلّى صراحة عن مبدأ الانصهار، الذي لم يقتنع به أصلا في يوم من الأيام، وحافظ على معظم بنيته (قسم منها قرر الانصهار محليا) بوصفه منظمة مستقلة موازية لحعادر، وإن اشترك في بعض المناورات التكتلية مع المناشفة في السنوات اللاحقة.


II-            التصوّر الأممي الثوري لبناء الحزب البروليتاري


فلنحاول، في ضوء الاستعراض التاريخي الوارد أعلاه وبعض الاعتبارات الإضافية، أن نلخص مبادئ التصور الأممي الثوري لبناء الحزب البروليتاري. ونقول هنا "الأممي الثوري" وليس "اللينيني" عمدا، إذ أننا شرحنا بما يكفي أن التصور المذكور لم يكن خاصا بالبلاشفة، بل مشتركا بينهم والمناشفة وروزا ورفاقها، وسواهم من غير "اللينينيين".

1)           حزب الطبقة العاملة إن الماركسية سلاح البروليتاريا النظري في نضالها الطبقي ضد الرأسمالية وفي سبيل الاشتراكية. هذه الحقيقة البديهية تعني أن النضال القومي، وإن تبنّاه الماركسيون حيث اعتبروه تقدميا، لا يعدو أن يكون في نظرهم نضالا عرضيا، يخضع في كافة الحالات لاعتبارهم الأسمى، ألا وهو مصلحة نضال البروليتاريا الطبقي. من هنا، فإن الماركسية تتناقض تناقضا تاما مع المبدأ القومي في تنظيم العمال، أي مبدأ فرزهم حسب انتماءاتهم القومية، وهي بالتالي متناقضة مع مبدأ الاتحادية القومية في بناء الحزب العمالي.

إن تنظيم العمال على أساس الماركسية الحقيقية لا يمكن أن يكون قوميا إلا بشكله فقط، أي بتنظيم العمال على صعيد الدولة-الأمة كإطار طبيعي لنضالهم المباشر، جميع العمال في إطار الدولة-الأمة مهما كانت قوميتهم، مع انخراط كل تنظيم من تلك التنظيمات القومية بالشكل، في جمعية أممية تجسد نضال البروليتاريا العالمية. فكما يقول "البيان الشيوعي"، ذلك النص المؤسس للماركسية: "بالشكل، وليس أبدا بالمضمون، يتخذ نضال البروليتاريا ضد البورجوازية بادئ ذي بدء طابعا قوميا. طبعا، فعلى بروليتاريا كل بلد أن تتخلص قبل كل شيء من بورجوازيتها الخاصة بها". هذا وإن أول الشرطين اللذين يميزان الشيوعيين عن سائر الأحزاب العمالية، حسب "البيان الشيوعي"، لهو أنهم "في مختلف نضالات البروليتاريين القومية، يضعون في المقدمة ويشرحون المصالح المشتركة للبروليتاريا برمّتها، دون اعتبار القومية...".

إن تنظيم العمال على أساس القومية، في منطقة واحدة، يتعارض مع مهمة الماركسيين الأساسية، ألا وهي تنمية الوعي الطبقي وتجذيره. هذه الحقيقة الأكيدة أدركها المناضل البلشفي ستالين، الذي واجه المشكلة القومية بكل تعقيداتها من خلال ممارسته السياسية في منطقته، فكتب سنة 1913، في كرّاسه الشهير "الماركسية والمسألة القومية"، وبأسلوبه التبسيطي:

"إن العمال، بانتظامهم على أساس القومية، يحبسون أنفسهم في قوقعاتهم القومية. منعزلين عن بعضهم بعضا بحواجز تنظيمية. فما يُسطّر عند ذاك، ليس ما هو مشترك بين العمال، بل ما يميّز بعضهم عن بعضهم الآخر. فيصبح العامل هنا قبل كل شيء عضو أمته: يهودي، بولندي، الخ. ولا عجب إطلاقا إذا كانت الاتحادية القومية في التنظيم تنمّي عند العمال روح الانعزال القومي".

2)           حزب الثورة البروليتارية

إن الهدف الأساسي لكل حزب ماركسي لهو إطاحة البورجوازية وقيام ديكتاتورية البروليتاريا. وحيث أن قوة البروليتاريا في وحدتها، بينما قوة البورجوازية تتجسد في دولتها الممركزة، فإن تنظيم البروليتاريا في حزب واحد "ضمن حدود دولة ما" و"مهما كانت الفروقات من النمط القومي أو الديني أو المهني بين أعضاء الطبقة ذاتها"، كما تقول روزا لوكسمبورغ في مقال عام 1904 الذي استشهدنا به في بداية هذا المقال، إن تنظيم البروليتاريا بذاك الشكل لهو "ميل طبيعي" في الماركسية.

إن بورجوازية دولة ما هي العدو الطبقي لجميع عمال هذه الدولة، لكنها ليست في معظم الأحيان "العدو القومي" لجميع عمال دولتها. وكذلك، فغالبا ما تضم البورجوازية في دولة ما أعضاء من القومية المقهورة إلى جانب أعضاء من القومية المسيطِرة. هكذا فإن تنظيم العمال على أساس القومية ليس من شأنه تقسيم صفوف البروليتاريا وبالتالي إضعافها فحسب، بل يتضمن أيضا "ميلا طبيعيا" إلى أن يرى العمال في كل بورجوازي عضو أمة، قد تكون أمتهم، بدلا من عضو طبقة هي، في جميع الأحوال، غير طبقتهم. وهكذا فكما تقول روزا، في المقال ذاته المذكور أعلاه: "بدل برامج سياسية مطابقة للمصالح الطبقية، ستُصاغ برامج قومية. فإن تخريب الكفاح السياسي الموحَّد الذي تخوضه البروليتاريا في كل دولة، سيكرَّس في مبدئه بسلسلة نضالات قومية عقيمة".

أما الماركسيون، فيرون في مركزة قوى البروليتاريا على صعيد الدولة، برفض أي تقسيمات عمودية لصفوفها، السلاح الأنجع لمحاربة سلطة البورجوازية المتجسدة بجهاز دولتها المركزي، وإطاحتها.

3)           حزب الثورة الدائمة أليس ما سبق متناقضا مع صياغة تروتسكي لنظرية الثورة الدائمة، التي تقول أن دكتاتورية البروليتاريا في البلدان المتأخرة تحلّ، "في المقام الأول"، المهام الديمقراطية ومهام التحرر القومي، وأنها من أجل ذلك "تتزعم الأمة المقهورة"؟ أوليس ما سبق تكريسا لوجهة نظر روزا لوكسمبورغ التي ترفض تبنّي حزب البروليتاريا للأماني القومية، بحجة أن الثورة الاشتراكية ستزيل أسباب وجودها؟ بكلام آخر، أليس ما سبق متناقضا مع دفاع لينين عن حق الأمم في تقرير مصيرها؟ كيف يمكن الدفاع عن مبدأ الاتحاد بين الأمم ورفض مبدأ الاتحادية القومية في تنظيم العمال؟ أسئلة وحجج طُرحت ولا تزال تطرح، ولا بد من تناولها.

إن أول ما يجب دحضه في هذا الصدد هو المنطق الباطل القائل أن الأداة-التنظيم، يلزم أن تكون صورة عن الهدف-المجتمع الذي يناضل من أجله التنظيم. فهذا المنطق هو عين الذي يقود الفوضويين إلى رفض مركزية التنظيم الثوري بحجة أن الشيوعيين يناضلون في سبيل مجتمع بلا دولة، أي بلا سلطة مركزية، وهو منطق مبني على سفسطة جلية: فهو يفترض أن التنظيم الثوري جنين المجتمع الشيوعي، الذي ينمو في أحشاء المجتمع الرأسمالي حتى يحين موعد ولادته. أي أن التنظيم، حسب هذا المنطق، تجسيد للمشروع، وليس مجرّد أداة لتحقيقه. ومقابل هذا التصور المثالي، ترى الماركسية، بوصفها نظرية مادية علمية، أن التنظيم لا يعدو كونه أداة لقيادة الثورة، أداة لقيادة الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، أداة التغيير وليس نموذجا للهدف النهائي. من هنا، فإن صلاحية الأداة وفعاليتها تقاس قبل كل شيء بقدرتها على التغيير، أي بالنسبة للتنظيم الثوري قدرته على قيادة الطبقة العاملة إلى تحطيم الدولة البورجوازية. ولا يحتاج المرء لأن يكون دكتورا في الديالكتيك حتى يفهم أن مهمة التحطيم هذه تتطلب مركزة لقوى البروليتاريا، مثلما يتطلب الانتقال إلى الاشتراكية أن تفرض البروليتاريا دكتاتوريتها الانتقالية.

فكما يقول تروتسكي في مؤلفه الكبير حول "تاريخ الثورة الروسية" ـ فصل "المسألة القومية"[11]: "ليس التنظيم الثوري مثال دولة المستقبل، بل هو فقط أداة لخلقها. والأداة يجب أن تكون ملائمة لصنع المنتوج، لكنه لا يتوجب أن تتماثل معه. إن تنظيما مركزيا هو وحده الذي يستطيع أن يضمن نجاح النضال الثوري ـ حتى عندما تكون الغاية تحطيم الاضطهاد المركزي المسلّط على الأمم".

وهل يعود ذلك إلى القول، على غرار روزا بالنسبة لبولندا، أن الاضطهاد القومي لا يمكن أن يزول بأقل من الثورة الاشتراكية؟ وهل يؤول، كما فسّره قوميو "الحزب الاشتراكي البولندي" ديماغوجيا، إلى القول أنه يتعيّن على الأمة المقهورة أن تنتظر بصبر قيام الثورة الاجتماعية لدى الأمة القاهرة؟

لقد ردّ لينين على هؤلاء الآخرين خير ردّ، في مقاله المذكور أعلاه والذي أثار استياء ادمبل وانسحاب مندوبيها من مؤتمر حعادر الثاني، سنة 1903. ردّ لينين بما فحواه: إننا لا ننفي بالمطلق (بخلاف روزا) احتمال انسلاخ بولندا عن الإمبراطورية الروسية، قبل انتصار الثورة الاشتراكية في هذه الأخيرة، مع أننا نعتقد أن ذلك الاحتمال ضعيف جدا. لكن المطروح، في جميع الأحوال، ليس أن تتخلّى البروليتاريا البولندية عن النضال ضد النير القومي المسلّط عليها، في سبيل النضال إلى جانب البروليتاريا الروسية ضد النير الاجتماعي، بل أن تتحد البروليتاريا، بجميع القوميات التي تتألف منها، في نضال واسع جبار ضد جميع أشكال القهر، بما فيها طبعا القهر القومي. فحتى لو كان الهدف المباشر يقتصر على "تفتيت روسيا"، فإن الطريق إلى تحقيقه لا يمرّ عبر "تفتيت قوى البروليتاريا"، بل على العكس عبر توحيدها ومركزتها. إذ أن قوى البروليتاريا متحدة هي وحدها القادرة على شل قوة الدولة القيصرية. وهو الشرط الأدنى المطلق الذي بدونه يبقى استقلال بولندا حلما وهذيانا.

لاحظوا أن لينين، في ذلك الرد، لم يهتم قط بالتنديد بالانفصالية التي لم ير فيها يوما "الشر المطلق"، بخلاف أولئك الشوفينيين الذين ينتحلون صفة "اللينينية"، بل ناقش "الحزب الاشتراكي البولندي" من وجهة نظر التحليل الملموس لشروط النضال الملموسة، ليبيّن أن مصلحة البروليتاريا البولندية العليا، حتى لو تبنّت الدعوة الانفصالية، تكمن في صهر قوتها في قوى بروليتاريا سائر قوميات روسيا. أي أن لينين، على غرار روزا لكن بوضوح أكبر بكثير (راجعوا الشرح أعلاه)، لا يدافع عن فكرة الحزب المركزي متعدد القوميات على صعيد الدولة، بالاستناد إلى أن هذه الفكرة "مبدأ مقدس"، بل استنادا إلى اعتبارات خاصة بالاستراتيجية الثورية التي يشكل الحزب الثوري أداتها حسب التعريف.

إن طرح المشكلة بهذا الشكل، من زاوية الاستراتيجية الثورية الملموسة، يحتم إدخال استثناءات على مبدأ الحزب الواحد للدولة الواحدة (نذكِّر بأننا نتناول فقط حالة الدول المتواصلة جيوغرافيا). ففي حال أن ميزان القوى بين دولة القهر والقومية المقهورة هو، بصورة دائمة أو حتى ظرفية، بحيث تستطيع هذه الأخيرة موضوعيا نيل استقلالها بقواها الذاتية، فإن تأسيس حزب منفصل في منطقتها يغدو ممكنا ومشروعا من وجهة نظر بروليتارية، حزب يكون أداة استراتيجية ثورية مميّزة خاصة بتلك المنطقة، على أن يبقى تجنيد المناضلين إلى الحزب، في جميع الأحوال، تجنيدا على أساس جيوغرافي وليس قوميا. وقد قلنا فقط إن هذا الاحتمال يغدو ممكنا ومشروعا، ولم نقل ضروريا ومحتما، إذ أن الاعتبار الحاسم، في التعيين الأخير، يبقى التحليل الملموس لمجرى الصراع الفعلي من وجهة نظر المصلحة الشاملة للبروليتاريا بجميع قومياتها. هذا وثمة حالتان نموذجيتان يمكن أن يصبح فيهما الاحتمال المذكور هو الأنسب: 1) في حال كانت الجماهير الكادحة في القومية القاهرة في وضع ثبط عميق، أو متخلّفة سياسيا تتضامن شوفينيا مع بورجوازيتها، بينما سنحت الظروف لتعبئة جماهير القومية المقهورة نحو انتزاع تحررها القومي، في ظل ميزان قوى يسمح لها موضوعيا بتحقيق هذا الهدف بقواها الذاتية (وهو الشرط الذي انطلقنا منه أصلا). 2) في حال نشأت ظروف، كحرب أو انتفاضة، أدت إلى شل قوة الدولة القاهرة شلا طويل الأمد بحيث أصبح في مقدور جماهير القومية المقهورة نزع استقلالها القومي على أرضها، بينما ليست الشروط الذاتية لبروليتاريا عموم الدولة بكافية حتى تستولي على السلطة المركزية. في كلا الحالتين، قد يصح تأسس حزب بروليتاري منفصل على أساس النضال الانفصالي، شرطا لا بدّ منه لقطع الطريق أمام بورجوازية القومية المقهورة التي لن تتردد في محاولة استغلال الظروف لصالحها. علاوة على ذلك، فإن إضفاء طابع طبقي، اشتراكي، على نضال جماهير القومية المقهورة الانفصالي هو الشرط الضروري لكسب عطف بروليتاريا القومية القاهرة وإنضاج حركتها، بدل أن تتمكن بورجوازيتها من تعبئتها شوفينيا ضد "الانفصاليين".

4)           الإدارة الذاتية في إطار المركزية إذا صح أن وحدها شروط خاصة أو استثنائية يمكن أن تبرر تأسيس حزب منفصل لبروليتاريا منطقة القومية المقهورة ضمن حدود الدولة الواحدة، هذا لا يعني البتة أنه عند القاعدة العامة، أي الحزب المركزي متعدد القوميات تنتفي خصوصيات نضال شتى القوميات. فإن لينين نفسه، ذلك المركزي بامتياز، ذلك "اليعقوبي" الأسطوري، هو الذي يؤكد أشد توكيد على ضرورة تمتّع منظمات الحزب الإقليمية، وحتى المحلية، بالإدارة الذاتية في تطبيقها لسياسة الحزب، وهو يؤكّد، ردا على أحد البونديين، أن المقصود بالإدارة الذاتية ليس مسألة "تقنية" وحسب، كالمسألة اللغوية، بل تشمل الإدارة الذاتية أساسا مهمة تكييف سياسة الحزب مع شتى أنواع الخصائص المحلية والإقليمية.

"إن النقطة الواحدة ذاتها في البرنامج تطبق بشكل مختلف حسب فروقات شروط العيش والثقافة والعلاقة بين القوى الاجتماعية في مختلف مناطق البلاد، الخ. ويجري التحريض حول المطلب الواحد ذاته في البرنامج حسب أساليب مختلفة وبلغات مختلفة، مع أخذ جميع تلك الفروقات بعين الاعتبار. هكذا إذن، في ما يتعلق بشكل خاص ببروليتاريا عرق معيّن أو أمة معيّنة أو إقليم معيّن، فإن الإدارة الذاتية تعني أن صياغة المطالب الخاصة التي تُقدّم بموجب البرنامج المشترك، واختيار أساليب التحريض يتبعان القرار المستقل للمنظمة المعنية. إن الحزب بمجمله وهيئاته المركزية تضع المبادئ الأساسية العمة للبرنامج والتكتيك. أما مختلف أساليب تطبيق هذه المبادئ في الممارسة والتحريض، فتحددها منظمات الحزب المختلفة الخاضعة للمركز، بتوافق مع الفروقات المحلية والعرقية والقومية والثقافية، الخ." (لينين، جريدة "الايسكرا"، 22 أكتوبر 1903).

وقد حرص لينين على منح جميع القوميات أقصى الضمانات حتى داخل الحزب، الأمر الذي دخل طي النسيان لتناقضه مع أسطورة المركزية "العسكرية" في الحزب البلشفي قبل ثورة 1917، تلك الأسطورة التي كرّستها الستالينية لأنها تتلاءم مع أساليبها التنظيمية الدكتاتورية. بيد أنها وُلدت قبل الستالينية، بل ساهم لينين ذاته في خلقها عندما اضطرّ إلى التشديد على المركزية دون سواها خلال أولى سنوات الثورة البلشفية، سنوات الحرب والحصار. وقد أوردنا أعلاه الضمانات التي اقترحها لينين، على سبيل المثال لا الحصر، في مؤتمر عام 1906: "تنظيم كونفرنسات خاصة للاشتراكيين الديموقراطيين من كل قومية، تمثيل الأقليات القومية في مؤسسات الحزب المحلية والإقليمية والمركزية (في مقال آخر من السنة ذاتها يوضّح لينين أنه "تمثيل نسبي" ـ ص ح)، خلق مجموعات خاصة للإنتاج الأدبي والنشر والتحريض، الخ.". أينها اليوم الأحزاب متعددة القومية، "الاشتراكية" أو "الشيوعية"، التي يتمتع فيها أعضاء الأقليات القومية بمثل تلك الضمانات؟

طبعا، فمقابل الضمانات، هناك الشرط الذي يجسد الفارق النوعي بين الاتحادية القومية والمركزية متعددة القوميات، ألا وهي رفض المبدأ القومي في تشكيل المنظمات القاعدية رفضا باتا واعتماد وحدة المكان (المحلة والإقليم)، دون سواها، أساسا لتنظيم الحزب. إن أساس تجمعات الحزب، مثل خلاياه، في محلة واحدة، لا يجوز قط أن يكون انتماء المناضلين القومي (بالطبع، إذا كان جميع مناضلي محلة واحدة ينتمون إلى قومية واحدة، فالمشكلة غير واردة أصلا)، بل فقط الاعتبارات المتعلقة بالنشاط الاجتماعي ـ المهني أو بدائرة السكن. إن مبدأ التنظيم هذا كان هو مقياس نجاح "توحيد" عام 1906 وسبب فشله مع البوند. وقد أعاد لينين التأكيد عليه بعد سنة 1912، التي شهدت تكريس الانشقاق داخل الحزب العمالي الاشتراكي الديموقراطي في روسيا وظهور الجناح البلشفي كحزب منفصل.

"هكذا فإن مجمل الشروط الاقتصادية والسياسية في روسيا يقتضي من الاشتراكية الديمقراطية أن تمارس بلا شرط انصهار عمال جميع القوميات ضمن جميع المنظمات البروليتارية بلا استثناء (السياسية والنقابية والتعاونية والتربوية، الخ، الخ.). فلا اتحادية في بنية الحزب، لا تشكيل لتجمعات اشتراكية ديموقراطية قومية، بل وحدة بروليتاريي جميع الأمم في محلة معينة، دعاوة وتحريض بجميع لغات بروليتاريا المحلة، نضال مشترك لعمال جميع الأمم ضد جميع الامتيازات القومية، مهما كانت، إدارة ذاتية لمنظمات الحزب المحلية والإقليمية." (لينين، "أطروحات حول المسألة القومية". يونيو 1913).

هل يعني ذلك أن الأقليات القومية المشتتة وسط أكثرية قومية على امتداد أراضي بلادها، وهي بصورة عامة أقليات مهاجرة، سواء كانت هجرتها قديمة أو حديثة (كما في حال جماهير المهاجرين المغاربة في بلدان أوروبا الغربية المعصرة، على سبيل المثال)، أن هذه الأقليات، إذن، لن تجد أي قناة تنظيمية خاصة لتعتني بمشاكلها الخاصة بها، بخلاف القوميات المركّزة في إقليم والتي سوف تتمتع بالإدارة الذاتية الإقليمية؟ سؤال مشروع في ضوء المبدأ المشروح أعلاه. أما الإجابة عنه، فتكمن في أن لينين شمل دائما في قصده، بالنسبة للضمانات التنظيمية التي اقترحها، سواء في عام 1903 أو في عام 1906، والتي نقلناها عنه، شمل القومية اليهودية (اليدّية) غير المتمتّعة بأرض تتركّز عليها، لا بل اقترح تلك الضمانات على البوند تحديدا، في إطار الحوار معه بوصفه أكبر المنظمات الاشتراكية في روسيا[12]. وأما كيف يمكن التوفيق بين رفض تشكيل تجمعات الحزب أو خلاياه على أساس قومي، من جهة، وإتاحة المجال أمام التكيّف مع خصائص الأقلية القومية والتحريض بلغتها وسائر الضمانات المذكورة، من جهة أخرى، عندما تكون الأقلية المعنية منتشرة وسط الأكثرية ومتداخلة سكنيا معها؟ فإن الحل هو في تلك "المجموعات الخاصة للإنتاج الأدبي والنشر والتحريض" في صفوف الأقلية القومية، التي ورد ذكرها بين الضمانات التي اقترحها لينين والتي استشهدنا بها للمرة الثانية أعلاه. هذه "المجموعات الخاصة" ليست منظمات منفصلة على غرار المنظمات التي تشكل أساس بنية الحزب، بل هي لجان متفرعة من المنظمات الأساسية يشترك أعضاؤها في هذه الأخيرة، إلى جانب نشاطهم المتخصص تجاه الأقلية القومية.

إن الصيغة التنظيمية ذاتها قد اعتمدتها الأممية الثالثة بالنسبة للنساء (وهنّ جنس مختلط بجنس الرجال !)، في مؤتمرها الثالث (1921)، وهي مفصّلة في "أطروحات حول الدعاوة وسط النساء"، يجدر الاقتباس منها لمزيد من الوضوح حول الصيغة.

"مع إعلان وقوفه بحزم ضد أي نوع من منظمة منفصلة للنساء داخل الحزب أو النقابات أو سائر الجمعيات العمالية، يقرّ المؤتمر الثالث للأممية الشيوعية بضرورة استخدام الحزب الشيوعي لأساليب خاصة في نشاطه وسط النساء، ويعتبر أنه لمن المفيد أن تشكَّل في جميع الأحزاب الشيوعية هيئات خاصة مناط بها ذاك النشاط.

(...) هذه الهيئات للنشاط وسط النساء يجب أن تكون فروع أو هيئات تعمل لدى جميع لجان الحزب، بدءا من لجنته المركزية وحتى لجان الحي أو الدائرة. (...)

إن النشاط وسط النساء يجب خوضه بالروح التالية: وحدة في الخط السياسي وفي بنية الحزب، مبادرة حرة للهيئات والفروع في كل ما ينزع إلى منح المرأة تحررها ومساواتها التامين، الأمر الذي لا يمكن الحصول عليه بالكامل إلا بواسطة الحزب بأسره (...)".

هي ذي الصيغة التنظيمية التي تسمح بوضع مقترحات لينين في حيّز التطبيق (بما فيها الكونفرنسات الخاصة)، عندما تكون أقلية قومية متداخلة سكنيا مع الأكثرية ودون الخروج عن مبدأ الحزب العمالي المركزي متعدد القوميات.

5)           "المنظمة الزنجية": استثناء وليس قاعدة

بقي أن ننظر في أمر "المنظمة الزنجية" [13] التي دعا "حزب العمال الاشتراكي" إلى تشكيلها، سنة 1939، في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد أيّد تلك الدعوة ليون تروتسكي نفسه وذلك في مناقشات دارت بينه وقيادة الحزب المذكور ـ الذي كان أحد أركان تأسيس الأممية الرابعة ـ في أبريل من السنة ذاتها. فللوهلة الأولى، يبدو مشروع "منظمة زنجية" متناقضا تناقضا تاما مع مبدأ الحزب متعدد القوميات الذي دافع تروتسكي عنه بحرارة في سنوات النضال ضد القيصرية في روسيا.

والحال أن تروتسكي لم يتخلّ قط عن ذلك المبدأ، إلا أنه اعتبر المشروع المذكور، كما اعتبره رفاقه الأمريكيون، خرقا استثنائيا لمبدأ تعدد القوميات، تبرره شروط استثنائية ويرمي إلى تدعيم المبدأ في نهاية المطاف. فإن "المنظمة الزنجية"، في نطر تروتسكي والتروتسكيين الأمريكيين، منظمة جماهيرية وليست حزبا ثوريا، عضوا في الأممية، على غرار "حزب العمال الاشتراكي" الذي ضمّ في صفوفه مناضلين من جميع القوميات والأعراق [14]. وهي منظمة فرض وجودها الوضع الخاص للشعب الأسود في الولايات المتحدة، كمعبر إلى بناء الحزب العمالي الثوري متعدد القوميات والأعراق، الذي يبقى هو الغاية الاستراتيجية الأساسية.

ففي مناقشة أبريل 1939، يصف تروتسكي المشروع بأنه "مدرسة تمهيدية للسياسة" ويتساءل عن الأسباب التي "تحدد ضرورته". فيجيب: "أمران أساسيان: إن جماهير الزنوج العريضة متأخرة ومقهورة، وهذا القهر قوي إلى حد أنها مضطرّة إلى الشعور به في كل لحظة، وإنها تشعر به بصفتها زنجية".

ويجد التصور الذي شرحناه وصفا دقيقا له في القرار حول "النشاط الزنجي" الذي تبناه "حزب العمال الاشتراكي" في يوليو 1939، والذي جاء فيه:

"(...) إن الزنجي الأمريكي، لأسباب يسهل فهمها، حذر حذرا عميقا من جميع البيض وقد عمقت أحداث مؤخرة هذا الحذر. (...)

"علاوة على ذلك، فإن الوعي السياسي الناشئ لدى الزنوج يتخذ، بصورة ليست غير طبيعية، شكل رغبة في نشاط مستقل لا يشرف بيض عليه. (...)

"إن "حزب العمال الاشتراكي" يقترح بالتالي أن يبادر أعضاؤه الزنوج بمساعدة الحزب ودعمه، إلى التعاون مع زنوج مناضلين آخرين في سبيل تشكيل منظمة جماهيرية زنجية مكرّسة للنضال من أجل حقوق الزنوج. هذه المنظمة لن تكون، سواء علانيا أو سريا، منظمة تدور في فلك الأممية الرابعة. بل ستكون منظمة سوف تُدعى جماهير الزنوج إلى المشاركة فيها على أساس برنامج عمالي يتناسب مع النضالات اليومية لجماهير العمال والمزارعين الزنوج. وسوف تصوغ برنامجها بنفسها تلك المنظمة الزنجية، التي سوف يشارك فيها أعضاء زنوج في الأممية الرابعة بحقوق لن تزيد أو تقل عن حقوق سائر الأعضاء (...). إن دعم مثل هذه المنظمة من قبل "حزب العمال الاشتراكي" لا يحدّ بأي شكل سعي الحزب لتجنيد أعضاء بين الزنوج، ولا يُبطل النضال الضروري من أجل وحدة العمال السود والبيض سوية، غير أن الطريق إلى ذلك لن يكون على الأرجح جادة عريضة. فإن منظمة مثل التي هي مقترحة، هي الوسيلة الأكثر رجحانا لدفع جماهير الزنوج إلى النشاط السياسي الذي، بالرغم من أنه مكرّس برنامجيا لمصالحها الخاصة بها، سوف ينصهر حتما في النضالات الأكثر اتساعا التي تخوضها حركة الطبقة العاملة الأمريكية برمتها".

هذا وقد استشهدنا بهذه الفكرة هنا، فكرة "المنظمة الزنجية" كما طرحها "حزب العمال الاشتراكي" وأيّدها تروتسكي، سنة 1939، ليس لكونها نموذجا يحتدى به ـ والحال أن الممارسة التاريخية لم تثبت نجوعها بالشكل الذي طُرحت فيه، حتى يومنا هذا ـ بل تأكيدا على أنها كانت، في جميع الأحوال، في نظر تروتسكي ورفاقه الأمريكيين آنذاك، صيغة استثنائية تنبع ضرورتها من شروط استثنائية، يحددها عمق الاضطهاد العنصري في الولايات المتحدة الأمريكية في تلك الفترة التاريخية (سنة 1939 !)، وسبيلا استثنائيا لخلق شروط التحاق جماهير الكادحين السود بالصيغة الماركسية "الكلاسيكية"، أي بحزب عمالي ثوري متعدد القوميات.

إنه الاستثناء الذي يؤكد القاعدة التي شرحناها طوال هذا المقال. أما بعد، فإن المطلوب هو تطبيق القاعدة وفق خصوصيات كل حالة، ويبقى المقياس الأعلى: مصلحة النضال البروليتاري الثوري !

صلاح جـابــر

عن مجلة المطرقة

مجلة شيوعية ثورية لعموم المنطقة العربية

وامــــــش

(1)          المتروبول: تعبير فرنسي يشير إلى الدولة الاستعمارية بخلاف مستعمراتها أو توابعها.

(2)          المراجع الرئيسية لهذا البحث هي مؤلفات لينين الكاملة، كتابات روزا لوكسمبورغ، كتاب "الماركسيون والمسألة القومية" (دار فرانسوا مسبرو، باريس)، سيرة حياة روزا لوكسمبورغ بقلم بيتر نتل وسيرة ليون تروتسكي بقلم إسحق دويتشر.

(3)          لم تشكل الجماهير اليهودية في روسيا أقلية "طائفية" وحسب، بل كانت لها خصائص قومية بدءا باللغة اليدّية الخاصة بها. وبخلاف الجماهير اليهودية "المندمجة" في بلدان أخرى، كفرنسا على سبيل المثال، ناهيكم ببلدان الشرق، فكان يهود الإمبراطورية الروسية يعانون من اضطهادين، ديني وثقافي. هذا وتجدر الإشارة إلى أن تنديد الماركسيين بفكرة "الأمة اليهودية"، التي هي حقا فكرة غارقة في الرجعية، يقصد تلك الفكرة الصهيونية التي تنظر إلى يهود العالم أجمع كأمة واحدة بالاستناد إلى مقاييس دينية عرقية (إن الصهيونية والعداء لليهود وجهان لعملة واحدة !) وبالقفز فوق جميع الفوارق القومية القائمة بين يهود شتى البلدان، شأنهم في ذلك شأن جميع المنتمين إلى ديانات واسعة الانتشار. أما يهود شرقي أوروبا، ولاسيما القاطنون ضمن حدود الإمبراطورية الروسية، فقد تميزت غالبيتهم فعلا بخصائص قومية هي التي تفسّر، مثلا، استعمال لينين في أكثر من مناسبة لتعبير "الأمة اليهودية" وذكره لليهود في مصفّ القوميات المقهورة (علما بأنه استشهد أحيانا بمقال لكاوتسكي وصف يهود روسيا كفئة مغلقة ـ "كانت" ـ نافيا عنهم صفة الأمة),

(4)          أصبح لاحقا فشل هذا الاختيار الاستثنائي حجة إضافية لأعداء الاتحادية القومية. لينين، في يونيو 1913: "تفرض الظروف أحيانا على الاشتراكيين الديموقراطيين أن يخضعوا مؤقتا لهذا الحل المساوم أو ذاك، لكنها ليست الحلول المساومة هي التي ينبغي علينا أن نستعير مؤقتا من البلدان الأخرى، بل الحلول الاشتراكية الديمقراطية المنسجمة. أما استعارة المحاولة النمساوية الفاشلة في المساومة، فإن ذلك يعد أحمق اليوم، إذ أنها شهدت إفلاسا تاما حتى في النمسا، حيث أدت إلى الانفصالية وانشقاق الاشتراكيين الديموقراطيين التشيكيين".

(5)          في الترجمة العربية لكتابات لينين، الصادرة عن موسكو، جرى تعريب مفهوم "أوتونومي" بتعبير "الاستقلال الذاتي". وهو تعريب غير موفّق، حيث أن كل استقلال هو "ذاتي" حتما، وهو أكثر من "أوتونومي". لذلك فضلنا تعبير "الإدارة الذاتية" الأقرب إلى معنى التعبير الأصلي الذي لا يتنافى مع وجود إطار موحد، بل هو إدارة ذاتية ضمن الوحدة.

(6)          كان لمارتوف وتروتسكي، وكلاهما من أصل يهودي، دورا بارزا في تفنيد أطروحات البوند، ولاسيما في مؤتمر عام 1903 الذي كرّس انشقاق البوند عن سائر أطراف الاشتراكية الديمقراطية الروسية.

(7)          كان الماركسيون المعارضون للبوند في روسيا يرفضون فكرة "الإدارة الذاتية الثقافية القومية" بناء على أنها تؤول إلى عزل الجماهير اليهودية عن سائر الجماهير، إذ تدعو إلى نظام وبرنامج تعليميين خاصين باليهود، ويواجهون تلك الفكرة بمطلب المساواة في حقوق القوميات، بحيث يدرَّس البرنامج التعليمي الواحد بشتى اللغات دون تمييز.

(8)          اندمج تنظيم ليتواني مع تنظيم مملكة بولندا سنة 1899.

(9)          هذا الفارق الأساسي أغفله بيتر نتل عندما كتب أن الاتفاق بين ادمبل وحعادر حول الصيغة التنظيمية كان مستبعدا في تقديره، في ضوء تجربة البوند

(10)       حزب ليتونيا، وليس ليتوانيا، تأسس سنة 1904 وقرر في السنة التالية الالتحاق بحعادر.

(11)       لقد ألغي اعتباطيا هذا الفصل مع سبعة فصول أخرى من الجزء الثامن لمؤلف تروتسكي في طبعته العربية سيئة التعريب، وقد صدر لاحقا على انفراد، في كراس نشرته "دار الطليعة".

(12)       إذا صح أن الإدارة الذاتية المحلية كانت تطال اليهود لكونهم مركّزين .......داخل مناطق إقامة، هي غيتوات ......... في بعض المدن والأقاليم، فإن "الإدارة الذاتية" الإقليمية لم تكن تعنيهم بأي شكل.

(13)........ تعبير "الزنجية" الذي كان واسع الاستعمال قبل أن يكتسي طابعا تحقيريا في العقود الأخيرة.

(14) تجدر الإشارة إلى الحرص الواضح، سنة 1939، على عدم الدعوة إلى "حزب زنجي" بل فقط إلى "منظمة زنجية".