الخميس، 10 يناير 2013

إسكافي المودة - يحيى الطاهر عبدالله "القصة -الإنسان "










يراقصني عجاج البحر
ترعد داخلي الأمطار
يكلمني تراب الأرض
يشدد قلبي الأوتار
أغنيكم ... أغنيكم
أغني جذوة النار التي فيكم
والعن ذلك البرد المدثر
روحكم برماد موتاكم
أغنيكم ..
وابني في عيون الشمس
مملكتي تناديكم
نسورا تعشق الترحال
في الأفاق تبغي الكون حرية
فان شئتم
تعالوا الآن نرقص رقصة البدء
ونعلم أن نمد الكف
نحو الشمس للدفء
تعالوا أيها الجوعى
تعالوا أيها الفقراء





لو قدر لذلك الفتى الأسمر النحيل، يحيى الطاهر عبدالله، أن يعيش عمرا أطول من العقود الأربعة التى عاشها، لكان له - على الأرجح - شأن لم يسبقه إليه كاتب فى أدبنا العربى الحديث.
ذلك أن هذا المبدع المتفرد ترك لنا فى هذا العمر القصير، مجموعة من الأعمال الأدبية، القليلة من حيث عددها الكمي، لكن الباهرة من حيث قيمتها الفنية والفكرية والجمالية.
وقد تميزت نصوص يحيى الطاهر عبدالله - بين نصوص أبناء جيله ممن نسميهم جيل الستينيات - باكتناز شعرى مكثف يقربها مما صار يعرف ب قصيدة النثر، وبتوتر حاد مرهف مستقى من توتر وحدة ورهافة المجتمع الصعيدى المغلق فى جنوب مصر الذى كان المجال الحيوى لرواياته وقصصه، وبلمسة أسطورية تراجيدية تفرزها حياة الناس الذين يدبون على الأرض، حتى تنعجن الخرافة بالحقيقة، فيتساءل المرء: هل الواقع هو أسطورة، أم الأسطورة هى واقع؟.
أنا لى عمر حريص عليه، أنا وصلت للسن الحرجة، أنا شاب، أديب شاب، هكذا تحدث يحيى الطاهر عبدالله فى حديث صحفى أجراه سمير غريب رئيس جهاز التنسيق الحضاري، حاليا، ونشر بمجلة المستقبل فى أوائل عام 1981 لكن حرص الأديب الشاب على عمره لم يدم أكثر من ثلاثة شهور، حيث رحل بغتة فى التاسع من أبريل نيسان 1981، إثر حادث سيارة أليم على طريق القاهرة - الواحات، وهو فى الثالثة والأربعين من عمره، شابا بحق، لكن أديبا كبيرا بحق.
بيننا إذن وبين العام الذى مات فيه يحيى إثنان وثلاثون عام، مما يستوجب التذكير والذكري، لعل الذكرى تنفع المبدعين.
ولد عبدالفتاح يحيى اسمه الأول الطاهر محمد عبدالله فى 3. أبريل نيسان 1938 بقرية الكرنك مركز الأقصر بمحافظة قنا، فى أسرة متواضعة.
وبذلك يكون صاحب أنا وهى وزهور العالم قد ولد فى الربيع ومات فى الربيع، وبين الربيعين حياة مضطربة غنية متوهجة.
كان أبوه شيخا معمما يقوم بالتدريس فى إحدى المدارس الابتدائية بالقرية، ولعل ذلك كان مصدر غرام قصاصنا باللغة العربية، أما أقاربه فمعظمهم من المزارعين، ماعدا قلة منهم مارست النشاط السياحى القائم على ما تحويه هذه المنطقة من آثار مصرية قديمة، بعد سنوات سيقول يحيى الطاهر فى الصحف:
أنا ابن القرية وسأظل فتجربتى تكاد تكون كلها فى القرية، والقرية حياة قائمة هى الكرنك فى الأقصر، أى طيبة القديمة وأرى أن ما وقع على الوطن وقع عليها، وهى قرية منسية منفية كما أنا منفى ومنسي.
ظل بالكرنك إلى أن حصل على دبلوم الزراعة المتوسطة، وعمل بوزارة الزراعة فترة قصيرة، ثم انتقل عام 1959 إلى مدينة قنا، حيث التقى فيها بالشاعرين عبدالرحمن الأبنودى وأمل دنقل، وكان هذا اللقاء بداية رحلة طويلة وصداقة ممتدة بين الثلاثة، فى هذه الفترة كان يحيى الطاهر شغوفا بكتابات العقاد والمازني، وكان الأبنودى مهتما بالموروث الشعبى العامي، أما أمل دنقل فكان اهتمامه بالموروث العربى الفصيح.
فى عام 1961 كتب يحيى الطاهر أولى قصصه القصيرة محبوب الشمس، وأعقبها بقصة جبل الشاى الأخضر، فى نهاية 1962 انتقل عبدالرحمن الأبنودى إلى القاهرة، وانتقل أمل دنقل إلى الإسكندرية حيث عمل كاتبا فى الميناء بينما ظل يحيى الطاهر مقيما مع أسرة الأبنودى فى قنا ما يقرب من عامين، فى عام 1964 لحق يحيى بالأبنودى فى القاهرة وأقاما معا، حيث كتب بقية قصص مجموعته الأولى ثلاث شجرات تثمر برتقالا.
فى القاهرة بدأ يتردد على المقاهى والمنتديات الثقافية، وبدأ يعرف كظاهرةٍ فنيةٍ متميزة، كان يلقى قصصه التى كان يحفظها بذاكرة قوية إلى حد الغرابة ودونما اعتماد على الورق، وكان يرى فى ذلك محاولة لتقريب المسافة بين كاتب القصة والرواة الشعبيين، كأن القرية ماتزال فى عمق قلبه، بعد ذلك سيقول:
عندما أبتعد عن قريتى أسعى إليها فى المدينة، وأبحث عن أهلى وأقربائى وناسى الذين يعيشون معي، وأنا لا أحيا إلا فى عالمها السفلي، فحين ألتقى بهم نلتقى كصعايدة وكأبناء كرنك، ونحيا معا ألمنا المصرى وفجيعتنا العربية، وبُعدنا عن العصر كشخوص مغتربة.
احتل يحيى مكانه كواحد من أهم القصاصين والروائيين المصريين الذين شكلوا ما عرف ب جيل الستينيات، وفى أكتوبر تشرين 1966 تم اعتقال مجموعة من الكتاب والفنانين المصريين، منهم يحيى والأبنودي، ثم أطلق سراحهم فى أبريل نيسان 1967، أى قبل هزيمة يونيو حزيران بحوالى شهرين!.
تزوج فى مارس آذار 1975، أخت صديقه الناقد د. عبدالمنعم تليمة، وأنجب بنتين هما: أسماء وهالة، وعمل لفترة قصيرة فى منظمة التضامن الأفروآسيوى مع أمل دنقل، برئاسة يوسف السباعي، وكانت أعماله تتوالي:
ثلاث شجرات تثمر برتقالا 197.، الدفّ والصندوق 1974، أنا وهى وزهور العالم 1977، حكايات للأمير حتى ينام 1978، الطوق والأسورة 1975، الحقائق القديمة صالحة لإثارة الدهشة 1977، تصاوير من التراب والماء والشمس 1981، الأعمال الكاملة صدرت بعد رحيله، عن دار المستقبل العربى بالقاهرة عام 1983، بإشراف المخرجة عطيات الأبنودي، التى قامت باحتضان أسماء يحيى الطاهر وتربيتها، ود. حسين حمودة، الشاعر والناقد، الذى كانت رسالته للدكتوراة عن يحيى الطاهر عبدالله.
عندما صدرت مجموعته الأولى ثلاث شجرات تثمر برتقالا أحدثت دويا مؤثرا فى الحياة الأدبية المصرية، لأنها كانت تحمل رعشة جديدة فى الجسد الإبداعي، حسب تعبير فيكتور هوجو عن شعر بودلير، وفى تفسيره لهذه الرعشة كتب الروائى الكبير إدوار الخراط مقدمة ضافية لهذه المجموعة، أوضح فيها أن القضية التى أزعم أن لها مكانا أساسيا فى عمل يحيى الطاهر عبدالله هى - على وجه الدقة - العلاقة الجدلية، الميتاواقعية، بين الواقع والخرافة.
ويفصل الخراط هذه العلاقة بين الواقع والخرافة عند الطاهر، بتأكيده على أن الطاهر لم يكن يهوى الكتابة لمجرد التجريب، ولم تكن رحلته فيما وراء الواقعية مجرد مغامرة غير محسوبة، بل قادته روح التكشف غير المكبوحة، وغير المنفلتة، إلى أحدث مكتشفات الحساسية الجديدة، وأعنى بها القصة القصيدة، ولهذا فإن الخراط يرى فى يحيى الطاهر عبدالله نموذجا مميزا للكتابة عبر النوعية، وقد خصص له فصلا ضافيا فى كتابه الكتابة عبر النوعية، أشار فيه إلى امتزاج الشعر بالنسيج القصصى والروائي، بحيث إن موسيقى الشعر نفسها وروحه أصبحت تخامر وتسرى فى تضاعيف كل البناء والنسيج الروائى والقصصى لديه.
وعندي، أن كتابة يحيى الطاهر عبدالله - فوق ما رصده الخراط - تتميز بخمسة ملامح بارزة:
الأول: هو ذلك الخليط المركب المرهف بين مخيلة الواقع وواقع المخيلة، مما درج بعض النقاد على تسمية أسطرة الواقع ودرج البعض الآخر على تسميته الواقعية السحرية.
الثاني: هو ذلك الميل الواضح إلى سرد التفاصيل النثرية اليومية البسيطة، مما صار بعد ذلك سمة أساسية من سمات الكتابة القصصية فى جيلى الثمانينيات والتسعينيات من شباب القص فى مصر.
الثالث: هو خصوصية المكان، إذ ارتبط الطاهر ببيئته ومحيطه الصعيدي، فى قصص القرية وقصص المدينة على السواء، حيث غدا المكان زمانا للروح والوجدان، لا مجرد جغرافيا صامتة.
الرابع: هو ذلك الالتفات اليقظ إلى نماذج المهمشين من الناس، حيث يحتل بؤرة المشهد منسيون ومهملون ومهتوكون وشذاذ آفاق ومشوهون وغيرهم ممن لم يعتد متن القص التقليدى على اعتبارهم أبطالا دراميين.
الخامس: هو تلك العناية الملحوظة باللغة وجمالياتها الدفينة، مع عدم الخضوع لبنيتها التقليدية أو علاقاتها المنجزة سابقا، ولعل فى هذا الملمح درسا باقيا للأجيال الجديدة التى تعتبر اللغة فى القصة زائدة دودية أو مجرد عربة نقل تحمل الفكرة أو الحكاية.
أنا وضعت فى مجموعتى الأولى ثلاث شجرات كبيرة تثمر برتقالا حيرتى فى البحث عن شكل ولغة ورؤية.
كانت هذه جملة يحيى فى حواره مع سمير غريب، المذكور سالفا، وقد أنجز المبدع سعيه، وتحقق له الشكل المتفرد واللغة الخصوصية والرؤية الثاقبة.
شكل يجدل بين القصة والقصيدة، مستلهما التراث العربى واليونانى والحكى الشعبى فى سبيكة واحدة.
ولغة تمزج بين السرد والإنجاز، فى أداء يجمع بين الفصيحة المقدسة والدارجة المدنسة، وبين الخالد واليومي.
ورؤية تضفر بين الميتافيزيقى الهائم والفيزيقى المغروس فى الطين، فى سياق وعى يدمغ القهر الاجتماعى والإنساني، منحازا للبساطة والبسطاء.
والمدهش، هنا، أن هذا الشكل المتميز، الذى صار علامة على كاتبه إنما أتى يحيى عفو الخاطر الخلاق، بدون عمد ثقافى مسبق وبلا قصد مفتعل مصنوع.
وهذا ما أكده المبدع بنفسه، حينما صرح قائلا: أنا لا أسعى نحو الشكل، وذلك لأن إنجازه المتفرد هو وليد الروح القلقة المتوثبة، وثمرة البصيرة النابضة المدركة.
مثل هذا الفنان لا يسعى نحو الشكل، بل إن الشكل هو الذى يسعى إليه، أليس هذا الكاتب هو الذى صدر روايته الدف والصندوق بجملة سان جون بيرس: لا تمض أبدا، أيها الصديق، من هذه الجهة للمدن، حيث الشيوخ ينسجون لك ذات يوم قش الأكاليل، لا المجد ولا القوة يترنحان إلا فى ذروة القلب البشري؟.
ثم أليس هو الذى صدّر قصته الرقصة المباحة بقوله: عقدى مفصل: بين كل لؤلوتين خرزة؟









                 يحيي الطاهر عبد الله .. كما وردنا عن عبد الرحمن الأبنودي


ذات صباح شتائي منذ حوالي أربعين عاما أو أكثر دلف إلي مكتبي بمحكمة قنا الشرعية شاب نحيل الجسم جدا ضعيف البنية، قلق النظرات كأن به مسا وقال في 'عظمة'"هل أنت عبد الرحمن الأبنودي أنا يحيي الطاهر عبد الله من كرنك الأقصر،جئت للتعرف عليكما أنت وأمل دنقل"

يحيي الطاهر .. الذي كان عقادياً

أغلقت الدوسيهات التي أمامي ودفعت بها إلي أحد الأدراج وقلت له إذن هيا بنا حتى هذا الوقت لم أكن قد عرفت
شيئا عن يحيي الطاهر عبد الله ولكني كنت أعرف عن عمه الحساني عبدالله وهو شاعر كلاسيكي ومن تلامذة العقاد ومن أتباعه وأشياعه المتطرفين في الطريق الى البيت اكتشفت أن يحيي الطاهر 'عقادي' أكثر من عمه، حين تأتي سيرة العقاد تستطيل سبابته لكي تصبح في طول ذراع وتخترق عيوننا ويتشنج وجهه الذي لم يكن ينقصه جنون، ويخرسنا جميعا ويستمر في قوة يحاورنا من طرف واحد ونحن .صامتون خوفا منه أو خوفا عليه أو إشفاقا علي جسده النحيل من تلك التشنجات القاسية.


فردأ من عائلة الأبنودي

في ذلك اليوم أخذنا المسير الى منزل الشيخ الأبنودي ولم أكن أعلم أن يحيي الطاهر عبد الله لن يغادر هذا البيت إلا
بعد ثلاث سنوات
.
ينادي أمي (يا أمه) ويتعامل مع الشيخ الأبنودي كأنه والده واستولي مني علي أخوتي. وكان أينما يذهب تمشي
الشجارات والمشاكل بين .أمل دنقل وأنا أن يحيي شديد النهم للقراءة وأن اطلاعاته الأدبية تفوقنا بكثير، ربما لأنه أتيح له أن يقرأ في مكتبة عمه. ولأول مرة في حياتنا نكتشف إنسانا ينتمي حقيقة الى الثقافة يدافع عن آرائه حتى الموت، بحميمية وصدق مما يدل علي أنه اتخذ الثقافة أهلا ومنهج حياة ودارا وعائلة ويتحزب تحزبا مصيريا لما يعتقده. كان قد استقال لفوره من عمله في مديرية زراعة الأقصر، فقط ليأتي إلينا، كان يعاني من مشاكل رهيبة مع زوجة أبيه التي هرب بعض أبنائها من هيمنتها الرهيبة الى الوادي الجديد وغيره وترك بقية أخوته تحت سطوتها وجاء يحتمي بنا.

بين يحيي .. وأمل دنقل

لم يكن أمل دنقل كما يعرف معظم من عرفه رقيقا مع يحيي وإنما كثيرا ما كان يترجم حبه له في شكل إثارة وشجارات
ومعارك لاشك أفادتنا كثيرا إذ كانت تكشف عن مساحات رائعة في ثقافة يحيي وخيالاته الجنونية الجامحة التي لا حد لحريتها كذلك كان سلوكه 'كوارثيا' إذ كان يطبق نفس هذا الخيال الجامح علي الحياة الواقعية للبشر، وفيما بعد حين كتب القصة كان يستعمل بسطاء الناس والمغفلين والمندهشين موضوعات يكتبها بصوت عال ويمارس عليهم ألاعيبه الخارقة التي هي مزيج من العبقرية والعبث الواعي والجنون.في عام 1962 .

وحيداً في قنا


غادرت إلي القاهرة بعد أن استقلت من عملي بمحكمة قنا وتلا ذلك استقالة أمل واتجاهه إلي القاهرة مثلي وهكذا
فرغ الكون حول يحيي في قنا وان كان استمر مقيما في بيت الشيخ الأبنودي عاما آخر بدوني، وقد توثقت علاقته بأهل البيت واعتبر ابنا سابعا للشيخ الأبنودي وفاطمة قنديل التي كانت تحبه شديدا وتعطف عليه شديدا ويخيل لها يوميا أنه سيموت في اليوم المقبل، فقد كان يحيي يجبد التمارض واستحلاب عواطف الآخرين وكان بارعا في ذلك ومعظم ممارساته في ذلك الشأن كانت مقصودة.

يحيي .. يصارع الغباء

كان يحيي يكره الغباء كما لا يكره شيئا آخر وكانت معاركه وصراعاته مع الأغبياء سواء أكانوا أناسا عاديين أو مثقفين أو مبدعين خائبين منطفئين فيما بعد تقلقني سواء في فترة الصعيد أو في فترة القاهرة فيما بعد حين جاء ولكني كنت أدخل معاركه الى جواره دون أن اسأل من المخطئ، فقد كنت اعتقد أن من حق العبقري يحيي الطاهر أن يفعل ما يشاء بالبشر وعليهم الاحتمال.

بعد عام جاء يحيي إلي القاهرة مصطحبا أخي كمال الذي يصغرني مباشرة واضطررت أن أغير سكني بجوار سينما اوديون لأسكن معهما في شقة حقيرة مليئة بالأسرة في بولاق الدكرور وهي الشقة التي كانت أشبه بالملكية العامة والتي كان يتردد عليها أصدقاؤه من أمثال طارق عبد الحكيم، وأحمد فؤاد نجم في ذلك الوقت إلي كمال الطويل كانت هذه الشقة أشبه بالمقهى الشعبي وحولها يحيي الطاهر الى ما يشبه سوق الثلاثاء، فكانت الأسرة تزدحم بالمشردين والغرباء من المثقفين والمبدعين وكان علي أنا أن أطعم كل هذا الجيش من الجنيهات التي أتكسبها من الأغنيات التي كنت اكتبها في ذلك الوقت حيث كان من النادر ان تجد أحدا من أبناء جيلي قادرا علي الكسب.

اسكافي المودة

كان يحيي الطاهر مدخنا بطريقة مفرطة وكنت رغم أني كنت أدخن أنا أيضا لا أطيق الدخول الى غرفته المعبأة
بالدخان والتي كان ينام فيها كأنه لن يقوم أبدا.وكنا ننطلق لشراء الكتب من سور الأزبكية وتعلم يحيي الانفلات من 'سطوتي' ليبيت بعض الليلات عند بعض الأصدقاء لكنه كان دائما حبيب الأمهات جميعا وفتاهن المفضل لمعسول لسانه ولصدقه الشديد في المودة التي تحول فيما بعد إلي 'اسكافي' لها وكتب رائعته (اسكافي المودة).

الأبنودي ودنقل .. مشكلة في وجه يحيي الطاهر

حتى رحيلنا من قنا أمل دنقل وأنا لم يكن يحيي الطاهر قد كتب قصة واحدة بعد، وعلي ما يبدو فإن وجودنا بثقلنا الإبداعي في قنا كان يعوقه عن التعبير عن نفسه خاصة بعد أن 'توبناه' من التحزب للعقاد وأسهمنا في 'فتح مخه' علي الثقافة الإنسانية الرحبة دون الوقوع في حبائل أحد بالذات.وكأنه وجدها فرصة في ذلك العام الذي قضاه بمفرده في بيت الأبنودي.ليكتب رائعته الأولي 'محبوب الشمس' قصته الأولي التي نشرها ثم توالت أقاصيصه العجيبة عن عالمه الأعجب وبدأ يحيي الطاهر شيئا فشيئا يكتشف لغته الساحرة التي مازالت محط أنظار كل القصاصين الكبار والصغار وحلمهم في أن يتملوكها وقد شابهوها وقلدوها ولكن سوف تظل هذه اللغة العظيمة مرتبطة بساحرها الأعظم يحيي.

عن صعيد مصر الذي فيه يتألق

ثم بدأ اتجاهه للكتابة عن صعيد مصر فسحر العالم وقدمه يوسف إدريس في مجلة الكاتب بمقدمة ساحرة وكنت دائما أقول ليحيي الطاهر إنني محظوظ أنه لم يكن شاعرا فهو الوحيد الذي كان يمكن له ان يشكل خطرا علي إبداعي لأنه كان يغترف من نفس البئر وعاشر نفس الواقع بمخلوقاته وعلاقاته ومشاكله ومفارقاته وأساطيره لم أكن اخشي أمل دنقل فأمل لم يتجه للكتابة عن الريف أو عن قرانا وحياتنا رغم انه عاش نفس الحياة ولكنه كان يؤمن بالفصل بين الذات والموضوع سواء علي مستوي التجربة الحياتية والسلوك الشخص
إما يحيي فكان ابنا مخلصا لتجربته مثلي تماما ووهبته قريته الكرنك القديمة حبها واحتضنته بحب وأطلعته علي اسرارها وفتحت لها صندوقها وأطلعته علي حليها الموروث وأشيائها الخاصة جدا وحين تقرأ 'جبل الشاي الأخضر'، 'العالية'، 'طاحونة الشيخ موسي' أو حتى روايته ' الطوق والأسورة' التي كتبت لها الحوار في الفيلم المعروف الذي يحمل اسمها سوف تكتشف انه ينزح من بئر لا ينضب وأن لديه من الكنوز ما لو كان القدر انتظر عليه بعض سنوات لأدهشنا أكثر مما أدهشنا



الادوار بينهما شقيق أم أب ؟

مازلت أعود الى قصص يحيي الطاهر عبد الله كلما أردت الاتصال به ولقد كانت علاقتنا أكثر من حميمة وكان بالنسبة لي أكثر من شقيق وكانت القاهرة تتعامل معنا علي هذا الأساس بل لقد دعت غرابة محبتنا كلا للآخر الى أن تندهش القاهرة لمثل هذه العلاقة التي لا يمكن أن تتحقق إلا بين أبناء الصعيد وبالذات في الغربة فيما بعد تركني يحيي ليتزوج وينجب وبدأنا نلتقي كلما وضعته الأيام في مأزق كنت دائما ألعب في حياته دور الوالد بشقيه الجانب الذي كرهه وهو جانب الناصح والمحجم والمنظم للسلوك، والجانب الحنون الذي كان يوقن أن كل ما ملكه هو ملكه في أية لحظة إذا ما احتاجه.

وأغرب ليلة عرس ..

في ليلة عرسه وزواجه من السيدة مديحة أخت الدكتور عبد المنعم تليمه اختفي يحيي ولم يأت وكنا هناك الدكاترة جابر عصفور وعبد المحسن طه بدر وسيد البحراوي والأساتذة فاروق شوشة وسليمان فياض والكثيرون
ولم يكن هناك إلا ان اجلس علي كرسي العريس بجوار العروس الى ان جاءنا في آخر الليل يصطحب طفلا فقيرا وجده ملقي مشردا تحت أحد الكباري التي ذهب عندها ليحتسي بعض زجاجات البيرة وبجهد جهيد وضعناه علي كرسي العريس وأتممنا الليلة بهرولة قبل أن يرجع في قوله.يعتبر يحيي الطاهر عبد الله أصدق من عبر عن عالم الصعيد بلا منافس في أدب شديد الحيوية متوهج الأداء خاصة اللغة وقد تكون هناك محاولات لطه حسين أو يحيي حقي لكنها لا يمكن أن تصل الى حرارة صدق التوغل والمعايشة ووحشية الأداء ورقته التي تمتع بها أخونا القاص الفذ يحيي الطاهر عبد الله، ومازلت أري أن حصوله علي جائزة الدولة التشجيعية شي ء قليل جدا بالنسبة لما يستحقه ومازلت أري أن الكثير من أبناء جيله يمارس غيرته منه حتى في موته ويسهم في إسدال ستائر التجاهل والتورية والأبعاد عن يحيي حتى لا تكتشف قيمته الحقيقية بصفته معني القصة القصيرة
 .

السيرة الهلالية في عهدة يحي الطاهر


يحيي في السنوات الأخيرة شديد الاهتمام بالملاحم المصرية وبدأ بالزير سالم فلما أفسدها عليه أمل دنقل في قصيدته العبقرية لم يدع مجالا لأن يستفيد منها شخص آخر في نفس الفترة، فاستعان يحيي بي في فهم السيرة الهلالية وانكب علي قراءة السيرة التونسية بلهجتها الصعبة التي جمعها عبد الرحمن قيقة من الجنوب التونسي، والتي قدم لها ونشرها الطاهر قيقة وكيل وزارة الثقافة التونسية السابق وكما كان يحضر بعض الجلسات التي اشرح فيها لأصدقائي مواقف من السيرة واسمعهم بعض التسجيلات إن علاقتي بأخي يحيي الطاهر أعمق بكثير من أن تحضر في كلمات يظل يحيي جرحا عاطفيا غائرا في عواطفي الصادقة وضميري وكلما تذكرته اعتصرني وجدانيا بطريقة خاصة جدا، واعتبر إنني قد فقدت جناحي طيراني حين فقدتهما أحدهما بعد الآخر: يحيي الطاهر عبد الله وأمل دنقل









في رثاء يحيى الطاهر عبدالله ..



أمل دنقل : قصيدة الجنوبي





صورة 
هل أنا كنت طفلاً 
أم أن الذي كان طفلاً سواي 
هذه الصورة العائلية 
كان أبي جالساً، وأنا واقفُ .. تتدلى يداي 
رفسة من فرس 
تركت في جبيني شجاً، وعلَّمت القلب أن يحترس 
أتذكر 
سال دمي 
أتذكر 
مات أبي نازفاً 
أتذكر 
هذا الطريق إلى قبره 
أتذكر 
أختي الصغيرة ذات الربيعين 
لا أتذكر حتى الطريق إلى قبرها 
المنطمس 
أو كان الصبي الصغير أنا ؟ 
أن ترى كان غيري ؟ 
أحدق 
لكن تلك الملامح ذات العذوبة 
لا تنتمي الآن لي 
و العيون التي تترقرق بالطيبة 
الآن لا تنتمي لي 
صرتُ عني غريباً 
ولم يتبق من السنوات الغربية 
الا صدى اسمي 
وأسماء من أتذكرهم -فجأة- 
بين أعمدة النعي 
أولئك الغامضون : رفاق صباي 
يقبلون من الصمت وجها فوجها فيجتمع الشمل كل صباح 
لكي نأتنس. 
وجه 
كان يسكن قلبي 
وأسكن غرفته 
نتقاسم نصف السرير
ونصف الرغيف 
ونصف اللفافة 
والكتب المستعارة 
هجرته حبيبته في الصباح فمزق شريانه في المساء 
ولكنه يعد يومين مزق صورتها 
واندهش. 
خاض حربين بين جنود المظلات 
لم ينخدش 
واستراح من الحرب 
عاد ليسكن بيتاً جديداً 
ويكسب قوتاً جديدا 
يدخن علبة تبغ بكاملها 
ويجادل أصحابه حول أبخرة الشاي 
لكنه لا يطيل الزيارة 
عندما احتقنت لوزتاه، استشار الطبيب 
وفي غرفة العمليات 
لم يصطحب أحداً غير خف 
وأنبوبة لقياس الحرارة. 
فجأة مات ! 
لم يحتمل قلبه سريان المخدر 
وانسحبت من على وجهه سنوات العذابات 
عاد كما كان طفلاً 
سيشاركني في سريري 
وفي كسرة الخبز، والتبغ 
لكنه لا يشاركني .. في المرارة. 
وجه 
ومن أقاصي الجنوب أتى، 
عاملاً للبناء 
كان يصعد "سقالة" ويغني لهذا الفضاء 
كنت أجلس خارج مقهى قريب 
وبالأعين الشاردة 
كنت أقرأ نصف الصحيفة 
والنص أخفي به وسخ المائدة 
لم أجد غير عينين لا تبصران 
وخيط الدماء. 
وانحنيت عليه أجس يده 
قال آخر : لا فائدة 
صار نصف الصحيفة كل الغطاء 
و أنا ... في العراء 
وجه 
ليس أسماء تعرف أن أباها صعد 
لم يمت 
هل يموت الذي كان يحيا 
كأن الحياة أبد 
وكأن الشراب نفد 
و كأن البنات الجميلات يمشين فوق الزبد 
عاش منتصباً، بينما 
ينحني القلب يبحث عما فقد. 
ليت "أسماء" 
تعرف أن أباها الذي 
حفظ الحب والأصدقاء تصاويره 
وهو يضحك 
وهو يفكر 
وهو يفتش عما يقيم الأود . 
ليت "أسماء" تعرف أن البنات الجميلات 
خبأنه بين أوراقهن 
وعلمنه أن يسير 
ولا يلتقي بأحد . 
مرآة 
-هل تريد قليلاً من البحر ؟ 
-إن الجنوبي لا يطمئن إلى اثنين يا سيدي 
البحر و المرأة الكاذبة. 
-سوف آتيك بالرمل منه 
وتلاشى به الظل شيئاً فشيئاً 
فلم أستبنه. 
. 
. 
-هل تريد قليلاً من الخمر؟ 
-إن الجنوبي يا سيدي يتهيب شيئين : 
قنينة الخمر و الآلة الحاسبة. 
-سوف آتيك بالثلج منه 
وتلاشى به الظل شيئاً فشيئاً 
فلم أستبنه 
. 
. 
بعدما لم أجد صاحبي 
لم يعد واحد منهما لي بشيئ 
-هل نريد قليلاً من الصبر ؟ 
-لا .. 
فالجنوبي يا سيدي يشتهي أن يكون الذي لم يكنه 
يشتهي أن يلاقي اثنتين: 
الحقيقة و الأوجه الغائبة











إقتباس مما كتبه يوسف إدريس في الأهرام بتاريخ 13/4/1981
"
وبالكاد بدأ يتنفس الصعداء ، وإذا بهذا الغادر الملعون ، ودونا عن ركاب عربة انقلبت وكان بها ثمانية غيره - متعهم الله بالصحة وأطال فى أعمارهم - اختطفه ، فعلاً وكما تنطق حكمة الشعب المصرى أحياناً بالحقيقة . 
كان ابن موت . 
الموت .. 
ذلك القضاء الحق الذى لا معنى له بالمرة . 
مات يحيى ..
هكذا نعاه لى الأبنودى فى منتصف الليل . 
ووجدت نفسى كالأطفال أبكى عجزاً . 
فها هو كاتب عملاق شاب آخر قد اغتيل . 
والقاتل موت ملعون مبكر . 
ولا حول ولا قوة إلا بالله . 
يا شعبنا المصرى الطيب ، يؤسفنى أن أنعى إليكم واحداً من أنبغ كتابنا ، ربما لم تعرفوه إلى الآن كثيراً ، ربما لم يكن حديث الناس كنجوم السينما ، ولكنى متأكد أنه سيخلد فى تاريخ أدبنا خلود لغتنا وحياتنا .. 
وعزاء لك يا حركتنا الأدبية الكثيرة العدد القليلة النوع "







مرثية باللهجة المصرية لم أتعرف على كاتبها و أظنه الابنودي :

بتزقزق العصافير في محراب واسع
والعابدين في الصوامع
بيرتلّوا – كالعادة
ويحيى جاي وفـ إيده زواده
م الآخِره، بيزُّك في الشبوره
بيبتسم للجِّن
لاجْلِن ما بينهم يفوت
طاير يرفرف زي عصفوره
وإلي بناته يحِّن
فوق السطوح بيلّف عمّال يدور
يقفز كما العصفور
جاي يا بنات يطمئن
عايز يعدّي يزور
عمّال بيحِجل جوه شبوره
من تحت خط الموت
إسكافي عايز يفوت
بيبتسم للجن
عدّي في غفله بدون ماياخد إذن..
متخفي كالمسحور
من بين فروج السجن
ظاهر في هيئة نبات
عايز يزور البنات
وعلي البلد - يطمئن
ياللا افتحوا - يا ولاد
واستقبلوه بالحضن...
لاجلن في قبره - يبتسم يحيي !. .



يحيى الطاهر عبدالله في تسجيل صوتي .. و رأي يوسف السباعي في يحي




ليحيى الطاهر عبد الله العديد من الأعمال الإبداعية المتميزة من أهمها:
·         ثلاث شجيرات تثمر برتقالا - 1970
·         الدف والصندوق - 1974
·         الحقائق القديمة صالحة لإثارة الدهشة - 1977
·         حكايات للأمير حتى ينام - 1978
·         تصاوير من التراب والماء والشمس - 1981
نشرت له أعماله الكاملة في عام 1983 عن دار المستقبل العربى وضمت مجموعة قصصية كان يحيى قد أعدها للنشر ولكنه توفى قبل أن يبدأ في ذلك وهى (الرقصة المباحة)، وصدرت طبعة ثانية عام 1993.
ترجمت أعماله إلى الإنجليزية وقام بترجمتها دنيس جونسون ديفز  وإلى الإيطالية والألمانية والبولندية.


 أخيراً ..

الأعمال الكاملة لـ يحيى الطاهر عبدالله



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق