الخميس، 10 يناير 2013

الأم - مكسيم غوركي



رواية الأم لغوركي 1906
لـ د.ممدوح أبو الوي


تقييمي للرواية 9/10

أصدر غوركي روايته الشهيرة "الأم" بعد قيام الثورة الروسية الأولى عام 1905، ولقد صدرت هذه الرواية بعد مرور أربعة عشر عاماً على صدور قصة غوركي الأولى "ماكار تشودرا" التي صدرت عام 1892، أيّ أنّ غوركي خلال هذه الفترة استطاع صقل موهبته الأدبيّة، يتابع غوركي في هذه الرواية تصوير الناس الفقراء البسطاء الكادحين، فلقد كان موضوع الفقراء والبؤساء أحد المواضيع الأساسية في الأدب الروسيّ وبدأه الشاعر كارامزين (1766ـ 1826)، الذي أصدر عام 1792 قصة بعنوان "ليزا الفقيرة"، وتابع هذا الموضوع بوشكين (1799 ـ 1837)، الذي أصدر قصة "مدير المحطة"، ضمن مجموعة قصص بيلكين عام 1831، وكتب غوغول (1809 ـ 1852)، بعده قصة، "المعطف" عام 1841، وتابع هذا الموضوع دوستيفسكي (1821ـ 1881)، فكانت روايته الأولى بعنوان "الفقراء" 1846، وكتب رواية أخرى بعنوان "المذلون والمهانون"، 1862، وكذلك اهتم بهذا الموضوع كثيراً تولستوي (1828 ـ 1910)، ولاسيما في حكاياته الشعبية، ولكن طريقة تصوير غوركي للفقراء والكادحين تختلف اختلافاً جذرياً عن طريقة سابقيه، لدرجة أنّنا لا نجد تشابهاً فإذا كان الأدباء المذكورون يحاولون إثارة الشفقة والرحمة على الفقير، فإنَّ غوركي يصوّر هؤلاء العمال الكادحين، بشكل يبعث في نفوس القّراء الاحترام، فهم قوة لا تحتاج إلى رحمة الدولة، لأنَّ الدولة هي التي تحتاج إلى تعبهم، فإن عملوا سارت مرافق الدولة ومؤسساتها ومعاملها، على ما يرام، وإنْ أضربوا عن العمل تعطل كلّ شيء، هم قوة تخافها الدولة وتخشى قيام تنظيم بين صفوفها، وغوركي عليم بهذه الطبقة ليس لأنَّه قرأ واطلع على الآداب العالمية، وعلى الفكر الماركسيّ فحسب، وإنّما لأنّه هو نفسه فرد من أفراد هذه الطبقة فلقد عمل حمّالاً، وفلاحاً وأجيراً وساحباً للمراكب، ومساعد خبّاز في فرن من أفران مدينة كازان، وكان الفرن لا يختلف كثيراً عن زنزانة، وصّور في مؤلفاته الأولى الحفاة والمشردين والغجر، وجاءت رواية "الأم" تتويجاً لحركة تطور الأدب الروسيّ بوجه عام، ولأدب غوركي بوجه خاص، ويرى بعض النقاد أنّها العمل الأدبيّ الأول في تاريخ المدرسة الواقعيّة الاشتراكيّة، وإن كانت هناك أعمال أخرى، ولكن رواية"الأم" كتبت بأسلوب جديد، وصورت الحركة العماليّة، وساعدت غوركي في إبداع هذه الرواية ثورة عام 1905، وهي ثورة عمالية وفلاحية، إلا أنّها قمعت.‏ 

وكان غوركي أثناء كتابته للرواية المذكورة أحد نشطاء الحركة البروليتارية، فكلف عام 1906 بالسفر إلى أمريكا لجمع التبرعات لصالح العمل الثوري في روسيا، وأراد لينين أن يصبح غوركي أديب الحركة العمالية، واستطاع غوركي في روايته المذكورة، فضح النظام القائم على القهر والاضطهاد والاستغلال، فقدم لنا مأساة العامل ميخائيل فلاسوف، الذي كان يتعاطى شرب الخمر لينسى آلام حياته، ويتابع ابنه بافل فلاسوف العمل، ويعيش في البداية، بالطريقة ذاتها التي كان يعيش بها والده، وفيما بعد يعتنق الفكر الثوريّ ويغيّر حياته، وجعل غوركي الأمّ البسيطة الخائفة كلّ إنسان، كلّ شيء بطلة لروايته، إذ تتطور شخصيتها من زوجة وأم إلى أمّ مناضلة بعد موت زوجها، وترمز الأمّ إلى الوطن بكامله الذي ينتقل من مرحلة الخوف والتردد إلى مرحلة الثورة.‏ 

أخذت الأم وهي أميّة تعيش من أجل خدمة ابنها بعد وفاة زوجها ميخائيل فلاسوف، انضم ابنها إلى مجموعة اشتراكيّة ثوريّة، وأخذ يقرأ الكتب الممنوعة "أنا أقرأ كتباً ممنوعة، هي ممنوعة لأنّها تقول الحقيقة عن حياة العمال.."(1). وأخذت المجموعة الثوريّة الاشتراكيّة تجتمع في بيته، كانت ناتاشا واحدة منهم، وهي فتاة من أسرة غنية إلا أنّ والدها لا يقدّم لها يد المساعدة لاعتناقها الأفكار الثوريّة، ولديها أخ وأخت متزوجة.‏ 

وبدأت تنتشر الأخبار عن عقد اجتماعات في بيت بافل فلاسوف، وأخذ الناس يتحدثون عن المنشورات التي توزع وتنتقد إدارة المصنع وتتحدث عن إضرابات العمال في العاصمة بطرسبرغ، فألقى رجال الشرطة القبض على أعضاء التنظيم الثوريّ، وفتشوا مجموعة من البيوت منها بيت بافل فلاسوف الذي يبلغ عمره عشرين عاماً، ويؤمن بالعلم وبقدرة العقل على الفهم والتحليل.‏ 

يوجد قرب المصنع الذي يعمل فيه بافل فلاسوف مستنقع، لا تأتي منه إلا المصائب، والأوساخ والبعوض، ولذلك قرر مدير المصنع تجفيفه ولكن على نفقة العمال، فقرر حسم كوبيك من كلّ روبل يتقاضاه العمال، أي حسم واحد بالمئة من أجورهم، فحرض بافل العمال على الإضراب لأنّه في الماضي حسمت الإدارة من أجور العمال مبلغاً من النقود من أجل بناء حمّام للعمال ولكنّ الإدارة أخذت النقود، ولم تبن حماماً، وهكذا في هذه المرة، قد يحسمون النقود ولا يجففون المستنقع، ولكن العمال خافوا التسريح وعادوا إلى عملهم، وفشل بافل فلاسوف في تحريضهم على الإضراب.‏ 
ورأى صديقه ريبن الذي يبلغ الأربعين من عمره أنّ بافل فشل لأنّه خاطب عقول العمال، ولم يخاطب قلوبهم، وجاء رجال الشرطة مساءً واعتقلوه لتحريضه العمال على الإضراب، واعتقلوا تسعة وأربعين عاملاً.‏ 

أصبحت الأم تبيع الفطائر والشوربة في المصنع، وتأخذ معها المناشير الثوريّة وذلك لكي يفهم رجال الشرطة أنّ ابنها بريء بدليل أنّ المناشير مازالت توزع. وطلبت السماح لها بزيارة ابنها في السجن إلا أنّ طلبها رفض في البداية وسمح لها بزيارة ابنها بعد مرور سبعة أسابيع على توقيفه،وحدثته عن عملها وعن المناشير التي عادت للظهور على الرغم من وجود شرطي في الممر الذي يفصل بينها وبين ابنها بافل الذي يناضل من أجل مصالح العمال وضد مصالح الرأسماليين، وكان يوزع المناشير التي تخدم غرضه، ولكن من الذي يكتب المناشير؟ هذا السؤال طرحه على نفسه بافل وكان يخشى أن يكون بعض الأغنياء يكتبونها ويصدرونها لأن العمال عاجزين عن دفع تكاليفها، أيكون هو وزملاؤه أداة بيد هؤلاء، وبدأت مناشير جديدة تظهر بمناسبة عيد العمال في الأول من أيار تدعو لتغيير النظام الاجتماعي القائم، ولاسيما أن أسعار المواد الغذائية الضرورية مثل الخبز آخذة في الارتفاع. وأخلي سبيل بافل فيما بعد، الذي قاد مظاهرة عمالية بمناسبة عيد الأول من أيار، عيد العمال، فحمل الراية الحمراء، راية العدل والحرية وهتف بأعلى صوته عاش الشعب العامل، وعاش حزب العمال الاشتراكيّ الديمقراطيّ.‏ 

وانتهت المظاهرة باعتقال بافل فلاسوف وبعض رفاقه ولقد شاركت الأم بالمظاهرة وكانت تعتز بابنها بافل، وبذلك ينتهي القسم الأول من رواية "الأم" التي تتألف من قسمين.‏ 

تترك الأم في القسم الثاني من الرواية بيتها بعد أن فتشه رجال الشرطة، واتفقت مع أحد الرفاق على توزيع المنشورات في القرى على الفلاحين، الذين يعانون الفقر والعوز، وأخذت الأم تتنكر في ثياب راهبة أحياناً أو بائعة أحياناً أخرى وتجوب مقاطعات روسيا، وتجري محاكمة بافل ورفاقه الذين لم يعترفوا بأيّ ذنب فهم لم يقتلوا أحداً، ولم يسرقوا أيّ شيء، ولكنهم عارضوا شكلاً من أشكال الحياة، يقود الناس إلى السرقة والقتل، وعدّوا المحكمة ظالمة.‏ 

أمّا موقف الروائي مكسيم غوركي (1868 ـ 1936)، فهو متعاطف مع العمال ويتضح من خلال الرواية بكاملها ولاسيما أثناء وصفه للإضراب الأول بسبب حسم قسم من أجور العمال لتغطية نفقات تجفيف المستنقع، وأثناء مظاهرة العمال بمناسبة عيد العمال، واعتقال بعضهم، وأثناء وصف المحاكمة التي جرت للموقوفين، إذ كان كلام المدعي العام فارغاً، وكذلك كان كلام محامي الدفاع، وتكلم بافل وقال إنّه لا ينفي أنَّ من واجبه تحرير الشعب من عبودية النظام الملكي، وتابع بافل أنّه اشتراكيّ، يناضل ضد الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، لأنَّ المجتمع الذي ينظر إلى الفرد على أنّه وسيلة للإثراء، هو مجتمع قائم على أسس غير إنسانية، وأن السلطات يجب أن تكون بيد الشعب، وستتحقق الاشتراكيّة لأنها نظام يقوم على أسس إنسانيّة وتنتهي الرواية بالحكم على بافل ورفاقه بالنفي، واعتقال الأم أثناء توزيعها للمناشير التي تقول الحقيقة عن حياة الشعب الكادح.‏ 

ترمز الأم إلى الوطن، بكامله، إنّها الوطن الأم فهو في البداية لا يتفهم الثورة، وبعد ذلك يتعاطف معها، وأخيراً يقوم بها، يكثر غوركي من استخدام كلمة الأم، فهي ليست أمّاً لبافل وحده وإنما كان الآخرون يسمّونها الأم، ولعل غوركي تعمد ذلك، إنّها أمّ الجميع، إنّها الوطن الأم الذي يقف مع أبنائه ويتفهم الثوار ويتبنى قضاياهم، يتأثر لآلامهم ويفرح لفرحهم.‏ 

تقوم في الرواية وحدة عضوية بين الجانبين الفكري والفني فلا يطغى أحدهم على الآخر، فعلى الرغم من أن غوركي يبسط على صفحات الرواية الأفكار التي ناضل من أجلها الثوار، ويسرد كلماتهم ودفاعهم عن مواقفهم، ويتعاطف المؤلف مع هذه الأفكار، إلا أنَّ هذه الميزة لا تتحقق على حساب المستوى الفني. فلا يتحسس القارئ بالابتذال وبمواقف مفتعلة، وبذلك فإنَّني لا أوافق الآراء التي يشير إليها الدكتور حسام الخطيب في كتابه "جوانب الأدب والنقد في الغرب"، والتي تتضمن وجود ثغرات كبيرة ولاسيما في مجال البناء الفني، ولقد ذكر هذه النقطة في حاشية بحثه عن رواية "الأم"‏ 
(2). 

كما إنّني لا أوافق الدكتور ماجد علاء الدين في رأيه، إذ يقول "البطل الأساسيّ في الرواية هو الثائر بافل فلاسوف،..."(3). لأنّني أرى أنّ الشخصية الأساسية في الرواية هي "الأم"، وغوركي عندما عنّون روايته بهذا العنوان كان يعرف أنها البطلة لأنّها الوطن الذي يحتضن أبناءه، أمّا ابنها بافل فهو أحد أبناء هذا الوطن، وإن كان ثائراً على النظام القائم على الظلم والقهر والاستبداد والاستغلال، ويؤمن بإمكانية وحتمية النصر على النظام البالي، على الرغم من وجود مخبرين بين صفوف الثوار،ولم يقاوم بافل ورفاقه رجال أمن النظام بالسلاح بل قاوموهم بالكلمة والفكر، كانوا قوة بناءة، ولم يمارسوا الهدم والتخريب، وكانوا يشعرون أنّ كلّ العمال والفلاحين في العالم معهم، وكلّ الرأسماليين والإقطاع في العالم كله ضدهم، فالصراع صراع طبقي.‏ 

تنتمي هذه الرواية إلى المدرسة الواقعية الاشتراكيّة، لا بل تعد العمل الأدبي الأول الذي ينتمي إلى هذه المدرسة. فكما أشرنا أسس المدرسة المذكورة مكسيم غوركي في روسيا ومنها انتشرت إلى الآداب العالمية الأخرى ولعلها المدرسة الأدبية الأولى التي تأسست في روسيا لأن المدارس الأدبيّة السابقة وأقصد الكلاسيكية والرومانسية والواقعية النقدية تأسست في الآداب الغربية، وانتقلت بعد ذلك إلى الأدب الروسي والآداب الأخرى. هذا في مجال النثر أما في مجال الشعر فلعل الشاعر فلاديمير مايكوفسكي (1893ـ1930). يعد مؤسس المدرسة المذكورة في الشعر العالمي.‏





_____________________________________






لتحميل الرواية بصيغة pdf  



"تلخيص و إقتباس " 


أنها من أجمل ما كتب عن الأم ووصف مشاعرها.

تبدأ الرواية بوصف لشخصية ميشال فلاسوف العامل السكير والجبار المخيف الذي يهابه الجميع بسبب مشاكله وبذاءة لسانه :

"ميشال فلاسوف. رجل شرير ذو شعر كثيف، وعينين شريرتين، ونظرة قاتمة، كان يعيش في وسط عمالي فقير، وكان هم هذا الوسط من العمال بعد الخروج من المعمل أن يجتمعوا ويلجأوا إلى الخمرة هرباً من تعبهم اليومي في ذلك المعمل الذي يستغلهم ويستهلك نضارة شبابهم، وأن يتنزهوا عند الغروب في الشوارع، ويتحدثوا عن العمل وعن الآلات، ويكيلوا لرؤسائهم السباب والشتائم، وكانوا غالبا ما يضربون نساءهن بعد مجادلة ما."

ثم يصف لنا حياة العمال وما أنتجه بؤسهم وفقرهم واستغلال أصحاب المعامل لهم من سوء في طباعهم وأخلاقهم وعنف يمارسونه ضد أزواجهم وضد بعضهم البعض:

"وكان يخيم على علاقاتهم شعور بالحقد به هذا الشعور الذي ورثوه، كداء، عن آبائهم وأجدادهم، والذي لن يفارقهم حتى اللحد."

يموت ميشال فلاسوف مخلفاً وراءه زوجة لم تحزن كثيراً على فراق ذلك الزوج القاسي الذي لم يكن لديه أسلوب حوار معها سوى الضرب والشتم.. وابنه بول ذو الأربعة عشر عاماً والذي وجد غياب والده فرصة ليحتل مكانه ويقلد سلوكه وتصرفاته من شرب الخمرة وإساءة معاملة أمه التي تستجديه قائلة:

" أنت بشكل خاص يجب ألا تقرب الخمرة، فقد شرب والدك عنك وأذاقني كؤوس العذاب، فترفق أنت بي."

وبعد أن جرب عدة طرق لتفريغ طاقته وممارسته مراهقته وتكوين شخصيته وجد له أخيراً طريقاً مختلفاً تماماً.. ألا وهو محاولة فهم الحياة ومعرفة سبب المعاناة التي يعيشها هو والتي كان يعيشها والده قبله وجميع العمال.. فبدل أن يلجأ للخمر لينسى همومه وعذابه قرر أن يبحث عن أسباب هذا العذاب الذي لم تعرف أمه في أعوامها الأربعين سواه..

عاش خلال سنتين حياة الراهب؛ يعود من المعمل وينعزل في غرفته ليقرأ الكتب الممنوعة كما وصفها لأمه التي كانت تراقب تصرفاته بقلق وخوف أكثر مما كانت تخاف عليه عندما كان يتناول الخمر ويخرج مع أصدقائه كما يفعل بقية الشبان..

" هذه الكتب التي أقرأها محرمة، لأنها تكشف لنا عن حقيقة واقعنا كعمال. إنها تطبع سراً. واذا ما وجدت معي فسيمضون بي إلى السجن."

صحيح أنها كانت أمية ولم تفهم بالضبط ما يفعله ابنها وماذا كان يدور في الاجتماعات التي يعقدها في بيتها مع مجموعة من الشبان.. لكن إحساسها وقلبها كأم أخبرها بأن ابنها يكرس نفسه لقضية كبيرة قد يضحي بحياته لأجلها. أحزنها ذلك كثيراً وأشعرها بالخوف الدائم عليه لكن حياتها السابقة مع زوجها ومعاناتها علمتها أن تصمت وتستسلم لحتمية الواقع.. فهي تعلم أن "الدموع لا تنضب في عيون الأمهات".

رغم خوفها وقلقها على مصير ابنها إلا أنها ككل أم تشعر بالفخر بابنها وهي تشاهده يرأس الاجتماعات ويتحدث بأشياء لا تفهمها. ولكنها لم تكن أمه وحده.. كانت أماً لجميع أصدقائه الذين يجتمعون في بيتها.. كان حنانها كأم يفيض عليهم جميعا ويحيط بهم.. تمنحهم الدفء والحنان ويمنحونها معنى جديد للحياة.. كانت من خلال الاستماع لهم تحاول أن تتعلم وتفهم ما يدور حولها.. حتى أن أندريه صديق ابنها عرض عليها أن يعلمها القراءة.. 

" نادراً ما كانت بيلاجي تدرك كنه هذه المعاني التي كان نيقولا يطلعها عليها، لكنه كان يختصر محاضرته لها بعبارة بسيطة استطاعت أن تحفظها عن ظهر قلب:
( إن السر في شقاء العالم هو أن الرجال المفكرين والأحرار قليلون.)

" ليس من انسان في العالم لم يؤذ أو يعذب. لقد أذقت الهوان لدرجة أنه لم يعد يثير غضبي. كل شخص يخاف من جاره، ولذلك يحاول هو أن يخيفه أولا. هذه هي الحياة أيتها الأم الصغيرة."

"دائماً نحن أول من يعمل وآخر من يعيش، في كل مكان. من من الناس يهتم بنا؟ أو يريد خيرنا؟ أو يعاملنا كبشر مثلهم؟ لا أحد".

" كم هي أليمة حياة الطيبين، وكم سهل موتهم!"

" نحن اليوم نفكر أكثر مما نشعر، لذلك أعتقد أننا فاسدون إلى حد ما".

"فتشوا دائماً عن الحقيقة، ودافعوا عنها ولو كلفكم ذلك حياتكم. إذ أن أولادكم سيعيشون بعدكم سعداء".
" اعملوا من أجل الحرية وهي تطعمكم الخبز، وتهبكم الحياة، ان حياتكم لتافهة."

كان ابنها وأصدقائه يطبعون المنشورات ويوزعونها بين العمال وهم يعلمون أنهم سيسجنون ويعذبون لكن لم يكن هناك ما يمنعهم عن مواصلة النضال في سبيل القضية التي يؤمنون بها.. ولهذا كان بول دائماً يعدّ أمه لتلك الساعة التي سيعتقلونه فيها، فكان يرفض حتى أن تعبر أمه عن مشاعرها وخوفها ويعتبر ذلك حجر عثرة في سبيل تحقيق هدفه السامي.. دون أن يفهم أن مشاعر الأم هي أسمى وأهم من أي قضية أخرى:

" عليك ألا تحزني، ولكن يجب أن تفرحي. أي متى يا رب يكون عندنا أمهات يفرحن في حين يرسلن أبناءهن إلى الموت من أجل الإنسانية؟".

" ثمة عواطف تحرم الإنسان من أن يعيش..."

وعندما عاتبه صديقه أندريه على قسوته مع أمه أجابه:

" علينا أن نصرخ بحزم بكل ما نريد، سواء كان هذا ايجابا أم سلباً".
"وحتى لو كان هذا التصريح لأمك؟"
" أجل، للجميع على حد سواء. فلا أريد أن تكبلني صداقة أو محبة"
"حسناً، إنك بطل. ولكن امسح مخاط أنفك، وامض قل كل هذا الكلام لساندرين وليس لأمك."
"لكني قلته لها أيضاً."
"أبهذه الطريقة؟ انك تكذب علي. وإنما قلته لها بلطف، بحنان. لكن أمام أمك المسكينة تعرض بطولتك. ثق أيها البهيم أن بطولتك هذه لا تساوي فلساً".
ومسحت بيلاجي دموعها وخشيت أن يوجه أندريه اهانة لابنها ففتحت الباب ودخلت.."

وعندما سجن ابنها تابعت هي مسيرته وأصبحت توزع المناشير مع أصدقائه ... 
بدأت الرواية والأم خائفة ومتوجسة من أصدقاء ابنها ثم تعاطفت معهم ومع قضيتهم وفي النهاية تبنت هي القضية وأصبحت كغيرها من الرفاق المناضلين من أجل القضية:

" أتعرفون لم صدر الحكم بالنفي على ابني وعلى الآخرين؟ سأخبركم وستصدقون قلب أم مثلي: لقد أصدروا عليهم ذلك الحكم يوم أمس، لأنهم كانوا يحاولون أن يظهروا الحقيقة لكم، لكم جميعاً، معشر العمال. وعرفت أمس فقط أن هذه الحقيقة لا يمكن لأحد أن يخنقها وينكرها."

"العمل المضني هذا لا يحمل إليكم سوى المرض والجوع والفقر. كل شيء هو ضدنا، والجميع يستغلوننا. وفيما نحن نغرق بالوحول حتى آذاننا، نرى الآخرين يعيشون حياة ترف وفجوز، ويحيون في تخمة مستمرة، ويبقوننا نحن في قبضة الرعب والخوف لأننا جهلة لا نعرف شيئاً. إن حياتنا هي ليل حالك مستمر."

" لا تخافوا شيئاً مطلقاً. إذا لا يوجد شيء أشقى وأتعس من حياتكم التي تعيشونها طوال العمر."

" من يفني قلوبكم ويجفف صدوركم؟"

" لن تستطيعوا مهما فعلتم أن تقتلوا روحاً بعثت من جديد".

"لا يمكن أن يخنق العقل بالدم".

" لن تتمكنوا من إغراق الحقيقة في بحار من الرماد. أنتم مجانين، وبذلك لن تجلبوا سوى النقمة عليكم، وسيتفاقم الحقد، حقد الشعب القوي، وأخيراً سينصب عليكم جميعاً وعلى أسيادكم".

وأمسك الدركي بعنقها وراح يضغط عليه وخرجت من بلعمها حشرجات تردد:
"يا لكم من أشقياء، يا لكم من أشقياء!"



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق